بقلم: فادي سلايمة
في يوم حزينٍ صامت مكفهر متلبد الغيوم، فاضت روح والد زوجتي المربي الفاضل العم «أبو كنان» إلى بارئها، بعد حياةٍ طويلة قضاها في الكفاح وفي الغربة وهو من مواليد قرية إجزم قضاء حيفا بفلسطين الحزينة عام 1947. وفي لحظةٍ ما بعد صعود الروح، ساد الجميعَ صمتٌ رهيب، وسرى في الآذان لحنٌ حزين، وارتسمت في المخيّلة لحظات الحياة الجميلة وذكريات الماضي الجميل، وغلب العفو على النفوس والخيرُ في القلوب ..
بعد رحيل الروح يشعر المرء بصمت المكان وفراغ في الزمان، شعورٌ موجع أحدثه فقد العزيز، ويعاني من بعده قسوة الأيام التي تفقده فيها أهله وناسه، واحداً تلو الآخر، فتصير حياته كشجرة خريفية بلا أوراق ألوانها ضائعة وأزهارها ذابلة وثمارها متساقطة.
عرفت الموت في طفولتي أول مرة عندما توفي ابن جاري، ولسنوات لاحقة صار التفكير بالموت يؤرقني ويقض مضجعي، إذ كان الموت بالنسبة لطفلٍ صغيرٍ في عمري أمراً مجهولاً، بل حتى الكبار من الأحياء لا يعرفون ماهيته حتى يدركهم ويتجرعون كأسه، وحينها لا يبقى لذلك الأمر من معنى، فلقد حصل الموت وانتهى الأمر !
ولما كبرتُ قليلاً علمتني الحياة بأن الموت حق وأنَّ الذي كان يؤرقني ويقض مضجعي بين الحين والآخر، ليس فكرة الموت بحد ذاته، وإنما فكرة الفراق .. فالفراق له طعمٌ لاذع، ولا يكاد يوجد إنسان على وجه البسيطة إلا وقد تجرّع مرارة طعمه مرات عدة في حياته؛ سواء عندما يفقد عزيزاً خطفه الموت، أو عندما يفارق حبيباً أُجبر على الرحيل لأمرٍ ما، أو كالفراق الذي حصل مع شعبنا الفلسطيني في نكبة عام 1948 عندما تفرق أبناء الشعب الواحد بل أبناء العائلة الواحدة، ولم يفتىء شبح الفراق عنهم بتاتاً حتى يومنا هذا وسط هذا الضياع والشتات وتوالي النكبات.. الأم تفقد أولادها والأخ يفارق أخيه والكل يفقد الوطن ويفقد ذاته !
إنَّ فكرة فراق الأهل والأحبة وذكريات الرحيل المؤلمة ترعب كل إنسان كلما مر طيفها أمامه، لهذا السبب نرى كل الناس في العالم يتجنّبون ساعات الفراق - حتى بتفكيرهم - وإن قصرت مدتها، وعندما تدق ساعة الفراق ترى الدموع منهمرة في المآق !
وعندما نفارق عزيزاً فإننا نحمل معنا في فكرنا جزءاً منه، أو نحتفظ بصوره وأشيائه الملموسة، لاعتقادنا بأن ذلك سيعيننا على ألم فراقه وسيخفف عنا حزن الابتعاد عنه، أو ربما لأننا بطبيعتنا البشرية نعشق الماضي والذكريات، وهناك من يدوّن يوميّاته أو ذاكرة أبائه وأجداده حتى تعيده، كلما نظر إليها، إلى الماضي الجميل، ولكنّ كلّ ذلك يجعلنا في الحقيقة حبيسي «سجن الذكريات» التي كلما تجدد طيف أصحابها في قلوبنا تذيقنا مرارات الحياة وآلام الفراق التي نحاول جاهدين طوال حياتنا تجنبها.
بل ومنا من يورث هذه الذكريات إلى أبنائه وأحفاده، ومثال ذلك أبناء شعبنا الفلسطيني المستضعفين في الأرض والذين يتوارثون الذكريات - الجميلة أو المؤلمة - أباً عن جد، وما يزالون حتى اليوم هائمين على أنفسهم في "درب الآلام" الطويل هذا، حاملين ذاكرة الجد الفلسطيني الذي عاش تفاصيل المكان ووعى تضاريسه وحلم مرة، أنه سيرى المكان قبل أن يموت ..
وفي نهاية المطاف ندرك أن الذكريات مهما كانت جميلة، فإنها توقظنا في نهايتها مثل نور نذير طالع أو مثل فجرٍ مطلٍّ كالحريق، وترمي في قلوبنا بعضاً من الأسى الذي نعشقه لأسباب لا نعرفها «وإذا ما التأم جرحٌ جدَّ بالتذكار جرحُ» .. توقظنا الذكريات في نهايتها تماماً كما أيقظني الآن من خواطري وأفكاري هذه أزيز الألعاب النارية التي اخترقت عنان السماء وأضوائها التي اخترقت جنح الليل، وضجيج الناس المحتفلين بنهاية السنة الميلادية الحالية التي تزامنت مع وفاة عمي في اليوم نفسه ! هنا أدركت أخيراً أنه لا وجود للحزن إلا بعد الفرح ولا وجود للفرح إلا بعد الحزن.. كفرح أولئك الناس بسنة جديدة.. ثم فرحهم بسنة ثالثة ورابعة وخامسة .. ولكن في النهاية وبعد كل هذا الفرح يأتي دائماً الفراق !
فادي سلايمة
ألمانيا 31.12.2021
(*) ﻛﺎﺗﺐ ﻭﺑﺎﺣﺚ وحقوقي ﻓﻠﺴﻄﻴﻨﻲ. حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، عضو ﻓﻲ ﺍﻻﺗﺤﺎﺩ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻟﻠﻜﺘﺎﺏ ﻭﺍﻟﺼﺤﻔﻴﻴﻦ ﺍﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﻴﻦ. له عدة مؤلفات وإصدارات ومقالات في التاريخ الشفهي الفلسطيني والقرى الفلسطينية المدمرة.