تأملات في مذكرات يائيل لوتان

الكاتبة يائيل لوتان
الكاتبة يائيل لوتان

بقلم: محمد جهاد إسماعيل 

   يائيل لوتان هي ناشطة سلام إسرائيلية، وهي كاتبة وصحفية، عملت محررة في عدد من المجلات، ولها العديد من المؤلفات، وترجمت كتباً متعددة ما بين الإنجليزية والعبرية، لعل أبرزها كتاب شلومو ساند الشهير (اختراع الشعب اليهودي) الذي ترجمته للإنجليزية.  

   ولدت يائيل في فلسطين الانتدابية عام ١٩٣٥، لأبوين مهاجرين من لاتفيا، وأمضت الشق الأول من حياتها متنقلة، كثيرة الترحال، ما بين إنجلترا والسويد والأرجنتين وجامايكا والولايات المتحدة. أما الشق الثاني من حياتها فقد أمضته مستقرة في إسرائيل، إلى أن ماتت عام ٢٠٠٩. 
كان والدها واحداً من رجالات جابوتنسكي، وكان قيادياً في حركة بيتار اليمينية. لكنه انقلب فيما بعد على نهج الحركة، وانتقل إلى حزب العمل والتيارات القريبة من اليسار. فكان لذلك الانقلاب تأثير كبير على يائيل، من حيث تشكيل وعيها الفكري والسياسي.  

   أيضاً تأثرت يائيل بجوانب أخرى من مسيرة أبيها الحافلة، فإلى جانب كونه سياسياً ودبلوماسياً، كان أيضاً كاتباً ومحرراً بارزاً، فقد كان أحد محرري موسوعة (جودايكا). إجمالاً كان للبيت الذي ترعرعت فيه يائيل، الفضل الكبير، في صقل ميولها الثقافية والأدبية، فقد كان بيتاً طافحاً بالنقاشات والكتب والمخطوطات واللوحات والصور. 

   أمضت يائيل عقوداً من عمرها في العمل الثقافي، وبوأت نفسها مكانة رفيعة في المشهد الثقافي الإسرائيلي، رغم أنها كانت دوماً مُحارَبة، فقد كانت مُعارِضة شرسة متمردة، تسبح على الدوام عكس التيار السياسي السائد، تندد بالسياسات الإسرائيلية، وتدافع عن حقوق الإنسان، لا سيما حقوق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة. 

   كتبت يائيل مذكراتها في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وقد جاءت المذكرات باللغة الإنجليزية فيما يربو عن خمسمائة صفحة. قدمت يائيل مخطوط المذكرات لعدد من الناشرين في بريطانيا، وكان المخطوط يقابل دوماً بالرفض، بحجة أن محتواه معادٍ لإسرائيل ومعادٍ للسامية والصهيونية. 
ظلت يائيل - حتى وفاتها - تكافح لأجل نشر المذكرات، دون أن تنجح. والآن، وبعد ١٣ عاماً على وفاتها، لا زالت المذكرات لم تنشر، ولن تنشر. 

   تنطوي المذكرات على قدر كبير من الأحداث، والوقائع، والأخبار، التي تكشفها لنا كاتبتها. وهذا مرورٌ وجيز، على بعض ما اشتملته المذكرات الموؤودة والممنوعة من الحياة: 

* تكشف يائيل كم كانت شخصية بيغن دموية، وحاقدة، وغير متسامحة. فبعد خروج والدها من حركة بيتار، بعث له بيغن قنبلة إلى البيت، انفجرت القنبلة، وكادت تقتل أباها وكل أهل بيتها. 

* كان الذعر وقلق الوجودية يتزايدان عند يهود فلسطين الانتدابية، كلما تقدم الجيش الألماني في شمال أفريقيا، وكلما دنا منهم رومل. فقد كانوا يخشون التعرض للإبادة ولهولوكوست ثانية، إذا ما وصلت طلائع الجيش النازي إلى فلسطين. 
تتحدث يائيل عن أسرتها في تلك المرحلة العصيبة، فتقول إن والدها خطط للفرار، إلى كهوف الكرمل، إذا ما اقترب الألمان كثيراً من فلسطين، وأنه خطط لإرسالها، هي، ووالدتها، للتخفي عند أصدقائه البدو في بطون صحراء النقب.  

* رغم أن معظم اليهود، كانوا مذعورين، من تقدم فيلق رومل في شمال أفريقيا، إلا أن ثمة أقلية منهم، كانت على استعداد أن تستقبل الجيش النازي بالورود والرياحين، إذا ما وصل مشارف فلسطين. فمثلاً أعضاء منظمة شتيرن الصهيونية، كانوا يميلون إلى موالاة ألمانيا النازية، على حساب بريطانيا وحلفائها.  

* في ذروة الحرب العالمية، قام سلاح الجو الإيطالي بقصف تل أبيب عدة مرات. صفارات الإنذار كانت تدوي في القدس، إلا أن المقاتلات الإيطالية لم تمسها البتة (لربما امتثالاً لتوجيهات من الفاتيكان مثلاً).  

* كان مساء ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧، مساءً غير عادي في فلسطين، فقد تحلق الناس حول أجهزة المذياع، وأخذوا بانتباه شديد، يتابعون تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار التقسيم. وما إن جاء تصويت الأغلبية لصالح القرار، حتى اندفع اليهود إلى الشوارع، ليحتفلوا بشكل هستيري، ويغنوا، ويرقصوا، ويشربوا. في الجهة المقابلة كان شعور العرب جنائزياً قاتماً، فقد كانت صدمتهم بإقرار القرار لا توصف أبداً.  

* كان المهاجرون اليهود يصلون فلسطين، برؤوس رمادية اللون، فقد كان يجري رشهم بمادة DDT حال وصول سفنهم إلى الساحل الفلسطيني. ظن المهاجرون اليهود الشرقيون أنها مؤامرة أشكنازية، وأنهم وحدهم من يرشون بالدي دي تي. لكنهم أخطأوا الظن، فقد كان جميع المهاجرين، وعلى رأسهم المهاجرين الأشكناز، يرشون بهذه المادة. 

* تقول يائيل إن اليهود منزعجين لغاية الآن من  تدمير الهيكل، لكنهم لا يفكرون في الفلسطينيين، الذين دُمِرت لهم مئات القرى في النكبة. إذا كان الهيكل يمثل جرحاً واحداً في ذاكرة اليهود، ففي ذاكرة الفلسطينيين ثمة مئات من الجروح.

* في يونيو ١٩٤٨، أي في ذروة انشغال الجيش الإسرائيلي بالحرب مع الجيوش العربية، اندلعت حرب أهلية إسرائيلية صغرى على ساحل تل أبيب. فقد قام الجيش الإسرائيلي بقصف سفينة ألتالينا، التي كانت تقل أسلحة لمنظمة أرغون. اشتبك الجيش مع مقاتلي أرغون على الساحل، وسقط في الاشتباك، عشرات القتلى والجرحى. كما ورافقت ذلك حرب كلامية ضارية، بين بيغن وبن غوريون.   

* تذكر يائيل أن شتاء ١٩٥١- ١٩٥٢ كان من أقسى فصول الشتاء التي مرت في حياتها. ففي ذلك الشتاء استمر هطول الأمطار بلا توقف، وتساقطت الثلوج بكثافة، حتى فوق السهل الساحلي. لقد كان شتاءً كارثياً على المهاجرين اليهود، فقد جلب المرض والموت والمعاناة للكثيرين منهم. وبالطبع كان كارثياً على اللاجئين الفلسطينيين القابعين في الخيام.    

* تختلف يائيل، مع الأصوات القائلة، بأن مسيحيي القدس هاجروا منها بعد ١٩٦٧. وتؤكد بناءً على مراجعاتها للإحصائيات، أن أغلب موجات نزوح المسيحيين من القدس، كانت في فترة الحكم الأردني، أي قبل ١٩٦٧. 

* المجتمع الإسرائيلي قائم منذ البداية، على التمييز العنصري، بين الأشكناز واليهود الشرقيين. في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت الأسرة اليهودية الأشكنازية في رحوفوت تُمنح أربعة فدادين من الأرض، أما الأسرة اليهودية اليمنية فتُمنح فدان واحد فقط. الأشكناز لهم النفوذ الأكبر في الاقتصاد والسياسة، أغلب الفقراء هم من غير الأشكناز، و٨٠ % من مرتادي السجون هم من غير الأشكناز.  

* تقول يائيل إن ثمة مراسلات ورسائل، كانت بين الرئيس جمال عبد الناصر، ورئيس الوزراء الإسرائيلي موشي شاريت. ورغم هذه المراسلات، إلا أن إسرائيل لم تسعَ للسلام مع المصريين في زمن عبد الناصر. وإنما كانت عدوانية، غير سليمة النوايا تجاه مصر، فقد استهدفت القوات المصرية في قطاع غزة، وتورطت في فضيحة لافون، وشاركت في العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦. 

* احتفل الإعلام الأمريكي بانتصار إسرائيل في حرب ١٩٦٧، وفي المقابل اتخذ خطاباً معادياً للعرب، وشامتاً بهزيمتهم في الحرب. لقد قام أحد الناشطين الأمريكيين بنشر كتيب صغير، يحتوي نُكَت وقفشات ساخرة حول هزيمة العرب. فيما نشرت إحدى صحف نيويورك، رسم كاريكاتير، يظهر فيه أبو الهول وهو يرتدي عِصابة عين موشي دايان. 

* خرج أرييل شارون من حرب ١٩٦٧، مزهواً بالنصر الذي تحقق على العرب في ستة أيام. فوجه تهديداً عنترياً مجنوناً للاتحاد السوفيتي، وقال ما يلي: (إذا ما استمر السوفييت في مضايقتنا، فسوف نحرك لهم جيشنا كي يؤدبهم، وسيكون بمقدور جيشنا، أن يصل أوكرانيا، في غضون ٣٦ ساعة فقط)!. 

* رغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين موسكو وتل أبيب في أعقاب حرب ١٩٦٧، كانت السلطات السوفيتية تسهل هجرة اليهود من أراضيها إلى إسرائيل. ففي الأعوام القليلة التالية للحرب، هاجرت أعداد كبيرة من يهود الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل. وكان ملاحظاً أن غالبية المهاجرين السوفييت، القادمين لإسرائيل، يلتحقون بأحزاب اليمين، ولا يميلون لأحزاب اليسار الإسرائيلي. 

* ترى يائيل أن الفلسطينيين أخطأوا خطئاً جسيماً، بعدم انتفاضهم في وجه إسرائيل، أثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣. وقتها كانت الجبهة الداخلية الإسرائيلية في حالة ضعف شديد، وكان الجيش الإسرائيلي منشغل على جبهات القتال، إلا أن الفلسطينيين لم يستغلوا الفرصة، وكان موقفهم سلبياً للغاية. لقد تكاسلوا بشكل غريب، ولربما كان تعويلهم أن التحرير سيأتي عبر الجيشين السوري والمصري.  

* توجس الإسرائيليون عند إعلان السادات نيته زيارتهم عام ١٩٧٧. وراودتهم أفكار مجنونة هي أقرب للخيال، فالجنرال مردخاي هود مثلاً، كان يرى أن طائرة السادات ستتحول، بمجرد دخولها الأجواء الإسرائيلية، إلى حصان طروادة، وستكون مقدمة لهجوم مصري مباغت على إسرائيل. أخذت السلطات الإسرائيلية كل هذه الخيالات على محمل الجد، وأحاطت مطار بن غوريون - الذي هبطت به الطائرة - بترسانة من الدروع والقناصة والقوات الخاصة. 

* لم ينزعج الإسرائيليون من خيانة فعنونو لأسرار برنامجهم النووي، بقدر انزعاجهم من رِدته عن الدين اليهودي وتحوله إلى المسيحية. الرِدة هي أمر معيب ومشين، ليس فقط عند المتدينين في إسرائيل، بل أيضاً عند العلمانيين. فلطالما حاول البعض إقناع بلدية تل أبيب، أن تطلق اسم الشاعر اليهودي هاينرش هاينه على أحد شوارع المدينة، إلا أن البلدية كانت ترفض بشدة، وذلك بسبب رِدة الشاعر. 

* سافرت يائيل إلى رومانيا عام ١٩٨٦، ضمن وفد إسرائيلي مكون من ٢٢ شخصية، منهم الكتاب، والفنانين، والأكاديميين، والحقوقيين. التقى الوفد الإسرائيلي هناك - تحت رعاية تشاوشيسكو - بشخصيات فلسطينية تمثل منظمة التحرير، وجرى بحث سبل التقارب والسعي نحو تحقيق السلام. عند عودة يائيل لإسرائيل جرى توقيفها في المطار، ثم طُلِبت للمثول أمام المحكمة، ليدينها القاضي بتهمة (لقاء أشخاص من منظمة التحرير)، ويحكم عليها بالحبس ١٨ شهراً وغرامة قدرها أربعة آلاف شيكل. 

البوابة 24