البوابة 24

البوابة 24

ماذا جرى؟

بقلم محمد احمد سالم

- عندما اجتمعوا مساء يوم بمقهى السياسة.. تجهمت الوجوه من الحنق، ونفذ الحزن إلى الأعماق، المجلس كان حافل بالحوارات والكلمات، وطال الأخذ والردُّ، الكلمات مبعثرة بما يشبه المسامير والرصاص و السكاكين والخناجر من كافة الأشكال والأحجام،و تجلى الاهتمام في الأعين مشوبًا بانزعاج والحنق بصورة تستحق الرثاء، يا له من موقف تكدر لحد المرارة، وهل يوجد ما هو شرٌّ من ذلك؟ فقد هزَّ واقع المجزرة الوحشية النفوس الحرة، فازدردوا الألم صابرين! فقال: رأيتُ في هذا الكيان رمز الموت الأسود وشبَحه وسحمه وصورته المُتوحِّشة تُطارِد الابرياء، بقَدْر ما كرهتُه، وآمنتُ بأن العدل لن يتحقق على الأرض.. حتى يكنس. نعلم أن الموت يطاردنا، والشهادة اتفقَت على قولٍ واحد ،رغبة في الخلاص من كيان سفَّاحٍ خطير أفلت من قبضة العدالة بلا وجه حق، بل قيل أكثر من ذلك إن دول تهاونَت في العدالة لأن مصالحها كانت مع القتَلَة لا مع القانون!

- ورغم ذلك كله نعموا بالخبر، وانتظر الناس الأفراح. إن الله قد استجاب لدعائهم. لتدخل الطمأنينة قلوبهم. ليس شيء على لله بكثير. فقال العم عشم بنبرة أرعشها الحزن والانفعال: لم يتكلم ثم ذهب في تكتُّم تام، أندفع كالشهاب وبشجاعة عظيمة فعلها. مؤكدًا بها أنه لن يتخلى عن الانتصار. وهو ابن عشرين .. إلى رحمة لله الرحيم، إلى جوار ربِّك الكريم أية طمأنينة، هذا جميل حقٍّا نحن أشرف من الجميع، وبكى غير أن منظر شيخ في الستين، وهو يبكي بالدموع منظر محزن حقٍّا، فاللهمَّ لطفك ونصرك ورحمتك.

- وبكت كل عين حتى قال : هو حرٌّ .. الواقع فاق ما تخيله؛ هل شعر بأنه مطارد؟ لا .. ولا مرة، هل حدَّدته الرهبة؟ ابدا.. لا .. الأمر وما فيه استخدم بارودة سمراء و لم يتوكأ عليها، وكثيرون هم الذين يفعلون؟! فقد كان يوم سعيدًا وهو يسير إليها، إذا سار وئيدًا بقامة مرتفعة كالعلم ومضى إليها بثبات انقضَّ عليهم وسوَّى بهم الأرض، وكتب مرحلة طويلة من التاريخ دون توقُّف.

- فقال: ربما سمعنا أسطورة ، فإن صح ذلك فلا شك أن بعض الأساطير تتفوَّق على الوقائع بصدقها وجمالها التي كان واقع تضحياتها أعجب من الخيال وأغرب من الأسطورة؛ شاب هادئ، متزن، وإنسان يغلف اتزانه بأثواب طبيعية من الطموح الحزين.

لم يكن يعيش من أجل ذاته، ولكنه كان يعيش من أجل ثأره العام؛ فقد كان طموحه يتفوق على حزنه، ويمتلئ أملًا في أن تنتصر قوة الحق على قوة الباطل المدججة بالسلاح. وفي سبيل القيم الإنسانية الرفيعة التي عاش من أجلها، هنا و تحت رماد الهدوء الخارجي تختفي جمرات تنتظر اللحظة المناسبة لتبهر بوهجها كل العيون.

- وحيث الميعاد قال لها: لا تغضبي ولتعودي إلى الرضا. نحن جميعًا رهن إشارتك كلنا فداك .. راسخة في الروح أنت و الخير كله والبركة، واحتضنته وربتت على يده برقَّة، و سارا من ممشًى إلى ممشًى بخطوات هادئة ورغم ذلك ازداد بها هيامًا.. واستمدَّ من حبها وقدسها تيارًا من الحرارة والبهجة والرضا و شدَّ على يدها قائلًا: قبليني وابتسمَتْ ومضتْ به إلى المجد عال، فأسلم نفسه إلى مجلسه المختار، مقعد صدق، وهو يتنهد بصوت مسموع، تمتد أمامه قبة ذهبية وقيامة طاهرة و بستانًا كبيرًا يتوسط أرض مشرقة معظمة، تناثرت في جنباتها مجموعات من الكواكب، في صورة كاملة الزينة والأناقة متمتعون بنعمة المبدع القدير، لقد بذل هؤلاء أطيب ما عندهم .و حومت حولهم أسراب من الطيور، الكل على ميعاد، وطوقته الأبصار حيثما ذهب بعين الإكبار والمحبة، وتفرش له الورد وعبيرِ العطور كطيف حالما حيث جلجل صوت الاستقبال بالتحية و الطرب، بالدعاء والصلاة، اشرقت القيامة.

- ابتسمت محبوبته ابتسامة ترحاب وهي تقرب وجهها منه. أنُسًا ألصق بالقلب، رفيعة المقام بين الجميع سارت في طريقها شامخة الأنف، كأنها سلالة نادرة من سحر وجمال الهة الاغريق القديمة الفاتنة الساحرة.

مادَّةً بصرها إلى القبة الذهبية، وقد غابت عن مسمعه ضجة الأصوات الآدمية والوحشية؛ وعجب للصمت المريح، يشم أريج الحب في كل مكان معبق بعبير ورد في زهرية بحجم الوجود، وقد انطبع بالخلود حتى تغلغل وسرى في روحه إذ حاز الرِضا والفوز بالشهادة مع مرتبة الشرف؛ آه ..فلسطين جميلة حقٍّا، ما أعجب هذا.. وما أبهجها ! ثم قالت، وهي ما تزال تنظر إلى جنين: كانت المدينة ترتجف من الحزن.. أمامنا أعوامًا قصيرة! .. كيف؟ كعقد ملكية الأرض.. نعم هي لكم.. فلا تمكِّنوا أحدًا منكم. ووقفت في ضوء القمر الجديد، و عينيها ترتادان مواقع الحسن في وجهه، إضاءة به الافاق الشرق والغرب. آه ..فلسطين جميلة حقٍّا، ما أعجب هذا.. وما أبهجها!.

البوابة 24