البوابة 24

البوابة 24

رواية الأرملة ومعاناة النّساء

بقلم: ذ. حسن المصلوحي

قبل أيام شاء القدر أن ألتقي بالصديقة الكاتبة ديمة جمعة السمان بالعاصمة المغربية الرباط، و قد عدت من هذا اللقاء بمغنم ثمين، فقد أهدتني روايتها الأخيرة المشتركة مع شيخنا جميل السلحوت "الأرملة"، مع إهداء كتبت فيه "إلى الكاتب الصديق حسن المصلوحي. مع الاحترام و التقدير. ديمة السمان 2023". قرأت الرواية على مهل منتشيا بملمس الأوراق الذي يزيد القارئ حلولا في النص و تماهيا معه، و قد نويت أن أكتب فيها قراءة ذات طابع فلسفي ذلك أن القضية أعمق بكثير من أن تكون قصة معاناة شريحة اجتماعية يلزم الدفاع عنها. لن أخوض في تلخيص تفاصيل الرواية التي اختارت لها نموذجين أنثويين و هما وردة و ندى، و لكن سأحاول الحفر عميقا في ما وراء النص و شخوصه و أحداثه إيمانا مني بالحقيقة توجد دائما في "الماوراء" أو "المابعد". لا شيء يحدث عبثا، لا شيء يحدث بالصدفة.

الرواية تصوير دقيق لمجتمع مغرق في الذكورية، و هي في حقيقة الأمر من حيث العمق لا تخص المرأة الشرقية فحسب بل أيضا المرأة الغربية ذلك أن العقلية واحدة رغم أن وضع المرأة ظاهريا ليس واحدا في الحالتين. فالرواية توسلت بمعاول الهدم حتى تعري الحقيقة الكامنة التي يرفض هذا المجتمع المتخم "بالذكورية" أن يقرها. حقيقة صادمة أن تتحول المرأة إلى "متاع"، متاع يدور في فلك الرجل الذكر الذي يستمرئ إخضاعها و قهرها و تحويلها إلى شيء. و هذا صلب الرواية و جوهرها في اعتقادي المتواضع، أن تفقد المرأة ذاتيتها و تصبح شيئا، أي بضاعة و سلعة معروضة في سوق الذكور الذي لا يتوقف عن البيع و الشراء، بالليل مثلما في النهار، فالمرأة كما صورتها الرواية مقهورة، لا لشيء إلا لكونها ولدت أنثى، و صدمت ذات يوم بأنها تمتلك جسدا مختلفا و قوانين بيولوجية مختلفة فقرر المجتمع أنها يجب أن تواري و تخفي ذلك و أن تعيش في العتمة. إنها حقا لمفارقة صارخة؛ أن تتحول المرأة من ذات واعية و مريدة و راغبة و حرة إلى محض جسد يحقق اللذة للرجل، يحمل أمشاجه ثم يلد ثم تعود هاته الدورة من جديد لتنهش حياة المرأة. فالمصيبة ههنا، و حتى و لو كانت المرأة محط اعجاب و رغبة بالنسبة للذكور كونها مشتهاة فقط، محمولة على محمل اللذة و المتعة الأنانية للذكر لا على كونها ندا يستحق أن يمتلك مكانة لا تقل رقيا عن مكانة الرجل، فحين تتحول المرأة مشتهاة تصبح قيمتها أبخس من الشهوة ذاتها التي جعلها موضوع رغبة و هنا مأساة النساء عبر التاريخ. ثم إن تحرير المرأة جاء في الرواية رصينا و ليس كما أصبحنا نرى مع هاته النسويات المتنطعات اللواتي ميعن القضية و حولنها إلى امرأة قادرة على لباس تنورات و قصيرة و تدخين سجائر خفيفة للنساء. و أعتقد أن هذا قمة امتهان المرأة و الحط من قيمتها، فالحرية لم تكن يوما شكلانية بهاته الطريقة، الحرية أن تملك المرأة زمام قرارها و صناعة ذاتها كما تشاء هي في اتجاه المستقبل هذا السير الحر لا يفترض أبدا أن يتقاطع مع الرجل لأنه شريك و ليس عدو. فهاته المرأة بالشكل الذي أوردناه لا تتخلص من القهر لأن المسألة تتطلب اجثتاتا لجذور العقلية الذكورية من عمق السيكولوجية الذكورية و الانثوية ذاتها كما من عمق التاريخ الذي كرسها عبر محطاته. تجسد الرواية نرجسية الرجل الذكر الذي يرى العالم مذكرا حرا خفيفا بين المرأة ذاك المؤنث القاصر الضعيف المثقل. و لهذا تكرست تلك الثنائية التي رأينها في أعمال تلفزيونية و أدبية، المرأة التي تستعرض البضاعة و الرجل الناظر للبضاعة، الناظر المشتهي و المرأة المنظر إليها المشتهاة. و إذا أمعنا النظر أكثر في التفاصيل فنحن نكتشف أن الرواية أيضا حفر في المفاهيم التي تم صياغتها لتقتنع بها المرأة قبل الرجل فهاته العقلية البائسة ليست حكرا على الذكور بل أيضا على الإناث.

عقلية تحول المرأة إلى مجرد جسد، جسد يلاحقها هي ذاتها فتحاول ما أمكن أن تنسى كونها جسدا. و في الفصل الثالث و الأخير بعد أن كشفت الرواية مأساة المرأة الممثلة في ندى و وردة المتعددة في كل النساء، أعلنت الرواية العصيان للمجتمع، ضد آراء الناس التي تصيب الانسان بمرض نسيان الذات، فأن تسمع كلام الدهماء و تتبعه معناه أنك ستنسى ذاتك و تتوه في حيوات أخرى. و لتنطلق الرواية بعد التقاء البطلتين إلى آفاق أخرى تزدهر فيها المرأة و الحياة.

و في الأخير فإن الرسالة الأسمى في هذا المنجز الجميل هي رسالة المصير، فماذا يكون قرار المرأة، هل تركن لعقلية هذا المجتمع و ترضى أن يتم اختزالها في الجسد؟ هل ستكسر تلك القيود و تتحقق كمشروع حر يعيش بذاته و من أجل ذاته؟ يعيش ليوصل رسالته و يساهم في بناء اجتماعي لا يميز بين الناس؟ و هذا بالفعل ما بلغنا في نهاية الرواية فالمرأة الولادة قادرة أيضا على أن تعلم هؤلاء الاطفال و تصنع واقعا جديدا يكون فيه الناس سواسية، تكون فيه الجدارة للعقل و العلم و المعرفة و ليس للجسد؟ فالرجل بشكل أو بآخر ما زال يحتكم لأفضلية القوة الجسمانية التي كان يحتكم إليها في العصور البدائية. لا يسعني في نهاية هاته القراءة إلا أن أبارك للكاتبين ديمة السمان و جميل السلحوت منجزهما هذا مع متنياتي الخالصة بدوام الصحة و العافية و مزيد من الأعمال التي تغني المكتبة العربية.

البوابة 24