حدث في غزة.. جثة وطفل وسائق اسعاف في المحاكم

سيارة اسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني
سيارة اسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني

أثار منشور على مواقع التواصل الاجتماعي جدلاً كبيراً في قطاع غزة، كتبه طفل يعاني من الفشل الكلوي يشكو فيه من سائق اسعاف، ما حدا بالسائق لتقديم شكوى بحق الطفل.

تناولت شبكة نوى والزميلة اسلام الأسطل هذه القضية في تقرير مفصل.

فيما يلي التقرير:

بدا واضحًا أنه لا يريد أن يكون طرفًا في الخلاف، لكن أحمد برهوم عادَ بذاكرته إلى ذلك اليوم، وتحدّث "كشاهدٍ بالحق"، ليوضح تفاصيل قضيةٍ أشعلت مؤخرًا مواقع التواصل الاجتماعي بغزة.

أحمد (من سكان رفح جنوبًا)، هو والد "نعيم"، طفلٌ توفّاه الله قبل خمس سنواتٍ بالفشل الكلوي، فنُقل جثمانه عبر سيارة إسعافٍ إدارية مخصصة لنقل أصحاب هذا المرض من الأطفال سكان الوسطى والجنوب، من وإلى مستشفى الرنتيسي. فوجئ قبل عدة أيام باسم ابنه يُزجُّ في قصةٍ لا ناقة له فيها ولا جمل، عندما نشر طفلٌ (أو أحد أقربائه) منشورًا على صفحته في "فيس بوك" يتهم فيه سائق سيارة الإسعاف بإيصاله بعد جلسة الغسيل إلى مكانٍ بعيدٍ جدًا عن بيته، ونقل جثّة طفلٍ متوفى معه في نفس السيارة.
 
كانت تعليقات المتابعين عنيفةً جدًا إزاء القضية، بعضها حمّل وزارة الصحة المسؤولية كاملةً، وبعضها الآخر اتهم السائق (الذي ذُكِرَ بالاسم) بانعدام الإنسانية والضمير، وغيرها دعم باتجاه تقديم شكوى رسمية، وغيرها تعدّى ذلك ليصل إلى محل التشهير بالسائق، والمساس بسمعته وسمعة أفراد عائلته، وهو الأمر الذي دفع بالأخير إلى اللجوء للقانون ورفع قضية بطريقةٍ رسمية. 

إلى هنا، لم تنتهِ القصة، فرفع القضية عادَ ليشعل المشاعر من جديد، "فهل من الضمير رفع قضية على طفل يعاني مرضًا؟" تساءل البعض، لا سيما بعدما ورد بلاغ للطفل بضرورة مراجعة محكمة الأحداث.

 


 

 

عودةٌ إلى برهوم، الذي وبرغم أنه كان متحفظًا على ذكر التفاصيل قال: "نقل الجثمان حدث حقًا، ولكن قبل خمس سنوات وليس في فترةٍ قريبة، وقد تمَّ ذلك بالتوافق مع أهالي المرضى بعد أن تعثّر توفير سيارة إسعاف خاصة لنقل الجثمان آنذاك".

ويضيف مفصّلًا: "جلستُ في المقعد الأمامي بجانب سائق الإسعاف، ووضعتُ طفلي في حضني، وكان مغطىً بحيث لا يبدو منه أي شيء، وكان بقية المرضى في الكراسي الخلفية، وقد استأذن منهم السائق على سمعي أن ينزلهم قرب الشارع العام كي لا يتأثر جثمان الطفل بالحر الشديد. كان ذلك في تاريخ 24-6-2018م".

بسام برهوم، أحد أقارب الطفل المتوفّى (وكان حاضرًا للموقف)، كونه يعمل في وزارة الصحة، قال: "عدتُ في ذلك اليوم مع قريبي إلى رفح في ذات السيارة لأشارك في مراسم الدفن والعزاء، لم أكن أعرف أحدًا منهم، . في الوقت ذاته، لم ألحظ أي اعتراضٍ من الركّاب. كان طبيعيًا أن نشعر بتعاطفهم فقط".

في تلك الرحلة، تواجدت أم خالد سحلول أيضًا، وهي والدة أحد الأطفال الذين اعتاد السائق زياد الحمايدة (طرف القضية الرئيس) نقلهم في ذات التوقيت، وكانت أيضًا شاهدة. قالت: "في ذلك اليوم، تأخرنا قرابة النصف ساعة، وبعدها أُبلغنا بأن طفلًا توفي، ونظرًا لتأخر الوقت لم تكن هناك سيارة إسعافٍ أخرى تقله لرفح، وبالفعل، وضعه والده في حضنه، وجلس في الأمام. كان الموقف إنسانيًا وصعبًا جدًا، لا سيما وأن الرجل كان بمفرده هنا، وقد فُجع بوفاة طفله حرفيًا".

تزيد: "لاحظت -لأجل الأمانة- بكاء بعض الأطفال، لكن لا أستطيع أن أجزم إذا ما كان ذلك بسبب الخوف من وجود الجثمان، أو حزنًا على فراق طفلٍ كان معهم يتلقى العلاج، أو حتى ألمًا بعد جلسة الغسيل".

ووفقًا لسحلول، فإن آلية نقل الأطفال لتلقي العلاج في مستشفى الرنتيسي، كانت وفق ما أُبلغوا من قبل إدارة الإسعاف والطوارئ تتم كالتالي: نقل المرضى من مستشفى ناصر الطبي في خان يونس جنوبي القطاع، إلى مستشفى الرنتيسي بمدينة غزة، ثم إعادتهم من الرنتيسي إلى ناصر، ومنه يعود كل منهم إلى بيته، و"لكن" تستدرك السيدة، "كان السائق في بعض الأحيان، ومن باب التهوين علينا، ينزلنا في أقرب مكانٍ لمنازلنا، وأذكر أنني أحيانًا كنت أطلب منه إيصالي لباب المنزل عندما يكون طفلي مرهقًا من الغسيل، ولم يرفض ذلك ولا مرة".

وبخصوص الطفل، (طرف القضية الآخر)، فشهدت السيدة أن السائق كان في أغلب الأوقات ينزله بالقرب من منزله، "تحديدًا على مدخل الشارع، تمامًا كما كان يفعل معنا جميعًا" تعقب.

ولكن، لماذا ينشر الطفل منشورًا اليوم، يتحدث فيه عن قضيةٍ عمرها خمس سنوات؟ الحقيقة لم تُنكرها والدة الطفل نفسه، التي أكدت أن عمر حادثة نقل الجثمان خمس سنوات، لكنها تحدثت عن إشكاليةٍ بين الطرفين (السائق وعائلة الطفل) تعود لشهر أغسطس الماضي.


 

 

وفي التفاصيل تقول: "في حينها، كان السائق يقل ثلاث حالات، ابني وكنتُ معه، وشقيقتين من النصيرات مع والدتهن، وثالث من خان يونس، وفي طريق العودة طلبت والدة الطفلتين إيصالها إلى منزلها لأنها لا تستطيع حمل الاثنتين لمسافةٍ بعيدة، فلبّى طلبها، وفي المقابل أنزلني أنا وابني عند مسجد الكتيبة كما هو معتاد، لكنني علمتُ أنه أوصل الثالث لبيته، وهو ما أثار غضب طفلي الذي يعود مرهقًا من الغسيل ولا يستطيع السير".

ووفقاً لوالدة الطفل لم تطلب منه يوماً أن يوصلها للمنزل، وترى أن هذا إن كان متاحاً يجب أن يكون للجميع، وأن كان ممنوعاً فلا يجب أن يتنازل السائق ويوصل أحدهم إذا طلب منه!!.

ما جعل غضب الطفل يزيد -وفق أمه- أنه اضطر للمشي حتى باب البيت يومها، لأنهما لم يجدا سيارةً مارةً تسير بهما إلى هناك، فكتب منشورًا في السائق باسمه "وتحسبن عليه"

وبعد ساعات، تدخَّلَ مدير  وحدة الإسعاف والطوارئ إياد زقوت، فحذف الطفل منشوره، لكن بعد أن هاجت الدنيا وماجت، وتقدّم السائق بشكوى بحق الطفل لدى الشرطة، مستخدمًا صورةً عن المنشور والتعليقات المسيئة.

تواصلت مع السائق، الذي أكد أنه لم يتقدم بالشكوى لغرض حبس ومعاقبة الطفل "كوني أعرف أنه لا يجيد الكتابة، لكن الحساب له، وعليه وجهت النيابة الاستدعاء باسم الطفل"، مردفًا: "أما عن نفسي، فأنا أعلم جيدًا أن كاتب المنشور أحد أفراد عائلته من البالغين الكبار، وهم وراء كل ما حدث من مغالطات واتهامات لا تمت للحقيقة بصلة".

يوضح الحمايدة أنه ينقل الأطفال المرضى لمستشفى الرنتيسي ويعيدهم منذ سنواتٍ عديدة، "وكانت الإدارة قد أبلغتنا أن ننقلهم من مستشفى ناصر لمستشفى الرنتيسي، وأن نعيدهم إلى ذات المكان، ولكن رأفةً بحالهم طلبتُ من الإدارة أن أقلهم من منازلهم -أو أقرب مكان منها- وأعيدهم إليها".

خلال فترة الجائحة، تكفلت إحدى الجمعيات بنقل المرضى، فكانت تقلهم من أبواب منازلهم إليها، فلما عادت المهمة على عاتق إسعاف "الصحة"، صار إيصالهم للشارع العام، أو لمدخل شارع السكن، يثير حفيظة البعض منهم، وفق تفسير الحمايدة، الذي استدرك بالقول: "لكن رغم ذلك كنت أمتثل لطلب المضطرين والمحتاجين فعليًا منهم، فأوصلهم إلى منازلهم، أو إلى أقرب نقطةٍ منها".


ويتابع: "يوم كتب الطفل المنشور، حدث الآتي: وصلنا النصيرات وكنت أهُم بإنزال امرأة وطفلتيها على الشارع العام بالقرب من شاطئ البحر، هنا أخبرتني السيدة بأن أمامها مسافة خمسة كيلوات، ولن تستطيع قطعها برفقة ابنتيها المتعبتين، فأوصلتُها، وكانت محطتي التالية الطفل (صاحب المنشور)".

بالعادة (والحديث للحمايدة) تصل سيارة الإسعاف بالطفل الذي يقطن قرب مسجد حسن البنا، لرأس الشارع المؤدي إلى منزله بالقرب من الهلال الأحمر القديم، وبالفعل هذا ما حدث، إذ لم يتبقى سوى ما يقارب 50 متر للوصول للمنزل، لتكون المحطة الأخيرة إيصال طفل تربطه بالسابق صلة قرابة.

يزيد: "طلبت والدته مني أن أوصلهما للمنزل لأن ابنها أُرهق من الغسيل، وبالفعل أوصلتهما، لأُفاجأ بعدها بمنشور من حساب الطفل يذكرني بسوء، وهذا ما دفعني لتقديم الشكوى، فقد أوجعتني التعليقات كثيرًا".

يبدو أن الحمايدة أراد وضع حدٍ للتعليقات التي طالت سمعته، وعائلته، فهو -كما يؤكد- لم يرفع الدعوى أبدًا لإيذاء الطفل، والدليل أنه توجه اليوم الأحد للتنازل عن القضية، حسب ما قال.

وقد أكد أ. إياد زقوت مدير وحدة الإسعاف والطوارئ في وزارة الصحة أن عملية نقل مرضى الفشل الكلوي عبر سيارات الإسعاف المخصصة لنقل المرضى، تمر بعدة معايير كأن يكون المريض غير قادر على الحركة، كبير في السن، أولديه أمراض أخرى تؤثر على حركته، ويتم التعامل معه هذه الحالات عبر لجنة مختصة من الوزارة تنظر في الطلبات الملحقة بتقارير طبية تثبت طبيعة الحالة الصحية للمريض وعليه تتخذ اللجنة قرارها بهذا الخصوص.

أما فيما يتعلق بنقل الأطفال والذي يتم بمعدل ثلاث مرات أسبوعياً يوضح زقوت أن الوزارة أخذت على عاتقها نقل الأطفال المرضى من المنطقة الجنوبية والوسطى من مقر مستشفى ناصر بخان يونس إلى الرنتيسي وإليه، ولكن وبعد مدة بدأ سائقي الإسعاف وبمبادرة منهم وبالاتفاق مع الإدارة الخاصة بهم، بدأوا بنقل الأطفال وذويهم من أقرب نقطة لمنزلهم، وتعيدهم إليها، وفي كثير من الأوقات يوصلوهم إلى باب المنزل، منبهاً أن هذه المبادرة لم تكن إلزامية بالمطلق وأنما جاءت لمؤازرة ومساندة الأطفال مرضى الفشل الكلوي وللتخفيف عنهم.

وأضاف:" مع جائحة كورونا بدأت مؤسسة انتر بال بنقل الأطفال في الفترة الصباحية ونقوم نحن في إدارة الإسعاف والطوارئ بنقل مرضى الفترة المسائية وفي الأعياد والإجازات الرسمية ضمن اتفاق بيننا وبينهم.

وفيما يتعلق بنقل جثمان طفل مع السائق والتفاصيل التي تم تناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي قال:" أن ما حدث هو استحضار لحدث قبل خمس سنوات وزجه في حدث جديد وعرضه بشكل مغلوط ومخالف للواقع، من أجل كسب تعاطف الرأي العام،  مشدداً :"في حينه لم يعترض أي من ذوي الأطفال، ومر الموضوع بشكل طبيعي سيما أن السائق ورغم أنه تلقى الأمر من إدارته بنقل الطفل المتوفى، لأسباب إنسانية، بشرط  أن يجلس  بجانب السائق وأن يكون مغطى بحيث لا يبدو للأطفال في المقاعد الخلفية،  إلا أنه أصر على استئذان ذوي الأطفال المرضى،  وكلهم أذنوا له  وانتهي الحدث في حينه".

واستنكر زقوت أن يتم خلط المعلومات والزج بمعلومات غير حقيقة، وتصوير الأمر وكإنما الجثة كانت مسجاة في الإسعاف وتم وضع الطفل بجانبها، ومحاولة إقناع القارئ بأن الحدث تم  قبل شهور  في ذات اليوم الذي نشر فيه عبر حساب الطفل ما يسيئ للسائق وهو ما يجانب الحقيقة بشكل مطلق، معتبراً أن ما حدث هو خلط مقصود، لكسب تعاطف الرأي العام.

ومن جهة أخرى قال زقوت أن القضاء هو الفيصل في الحكم في مثل هذه القضايا سيما ما يتعلق باستغلال مواقع التواصل الاجتماعي. وثمن زقوت قرار سائق الإسعاف التنازل عن القضية، وهو ما يتوافق مع شخصيته المعروفة للجميع عبر سنوات عمله الطويلة في جهاز الإسعاف والطوارئ والذي لم يتأخر يوماً عن تأدية واجبه.

وكانت وزارة الصحة قد أصدرت بيانًا توضيحيًا للقضية، توافقت تفاصيله، وتفاصيل شهود العيان في القضية بالكامل، وهو الأمر الذي يجدد الدعوة للصحفيين، ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، لضرورة التثبت من كافة جوانب القضايا التي يطرحونها، والاستماع لكافة الأطراف قبل إطلاق الأحكام.

شبكة نوى