البوابة 24

البوابة 24

القدس حديث الروح

محمد أحمد سالم

"حديث الروح للأرواح يسري، وتدركه القلوب بلا عنـاءِ" جاء الوعد كالحب عفوًا، من شقاء الواقع، و مهما كابد الحي من تعب، ولكم عشق الوفاء، خفق صدره بما بغته، فذاق رحيق الأمل صافيًا، ثم أدناه من  أمل اللقاء ، فعاد إليها شاكرًا، هادئًا مطمئنًا، بسرور لا عهد لقلبه بمثله، وحاجز لا تقتحمه إلا المعجزات.

بتلك النظرة الحييَّة الوجلة، يذوب هيامًا؛ وأي الكلمات يحسن وقعها من نفسه؟ تريد الروح أن تبوح، لكن اللسان عاجز ! ساد الصمت مليا.. والرجاء، صمت مُشبع بالطمأنينة والأمان، وتلاقت القلوب حتى تآلفت، وبينهما عهدًا صادقا، ووفاء، فلا يلبث أن يصير الوعد الحق، وراء حجاب.

فالعروس ترقب حظها في صبر ورجاء، تطل كالأمل النضير والحلم السعيد، حسبه أن يملأ فيها عين ملؤها التطلع والرجاء... تغشاها غلالة من سحاب ناصع البياض، ينضح بنور ثريات تتلألأ تسر الناظرين، فتلك معقد الرجاء وبسمة الأماني، و خلاصة ثمرة كفاحه، ومفخرة الجهاد، مذكِّرًة دائمًا بتضحياته، والدماء. ومضت فترةُ صمتٍ من عصور التاريخ البعيدة، مشحونة ببهجة اللقاء.

فتولاه خشوع، تجاذبت معه الأرواح، دون أن يعوق تجاذبها الصمت والجلال، حيَّاها واضعًا راحتَيه على صدره، بابتسامة وإيماءة - ولأعين المحبين لغة سرية صامتة - فردَّت تحيته مبتسمة، ولبث يملأ عينيه من عروبتها الخالصة، ولا يكاد يرى شيئًا من حوله. هائم في نغمة روحية عالية لا عهد له بها، وقد بلغ منه التأثر والطمأنينة مُستقَر، وبهاء.

ورمى بطرفه إلى البلدة القديمة فوجدها ساكنًة، تلوح مآذنها و قبابها العربية كأنها تسبح بالحمد والإجلال تحية ورؤية لنور الدنيا لأول، ومهد الضياء. و دار مع أسوار القدس على مهل متصفح المناظر، يدير وجهه في الآفاق، مسرِّح الطرف بين المآذن والقباب، داخل البلدة القديمة عبق من عصور التاريخ البعيدة، وصولا إلى درب الآلام، حمل صليبه طوال الطريق. لتبدأ مسيرة درب الآلام - أربعة عشر مرحلة - تمثل كل منها فصلا من معاناة وشقاء ونكبة شعبه، من باب الأسباط إلى القيامة المجيدة، لنهاية المقام الذي ودعت فيه أم النور، سيدنا عيسى المسيح، رمزًا حيا للتضحية والإيمان.

يفزع أحدهما إلى الآخر لائذًا بجناحه ساكنًا إلى ذراعيها، على ما يكتنفها من الحزن، شعور طاغٍ بالاضطهاد والحصار والقهر والعذاب، يسير الألم بين يديها، و لا يعرف الخوفَ ولا القلقَ ولا اليأسَ قلبُه. من أجل ذلك يصلب شعبه حتى الموت. " إذا فعلوا بالعود الأخضر هكذا، فكيف يفعلون بالعود اليابس؟" مسيرة الخلاص والوحدة، أمضى سلاح نواجه به الغرباء. الطارِئون، العابرون. قوة شريرة خُلقت من الشر لتُمارِس الشر؛ لكن طال الزمن أو قصر، الفلسطيني ينتصر  "يسوع الناصر ينتصر".

ومن الألم تاه في دنيا القدس الساحرة، ورأى فيما أمام ذلك مآذن القدس في علوها ونورها الوهَّاج السامق تُبارِك ما حولها، مرسلة على العالمين ضياء لألاء النور والسرور، كالدر المنثور، ومسبحة قهرمانية، حباتها بيمناه، صَعَّد بصره إلى القبة الذهبية تنطلق بجلال في غلالة من ظلال المغيب، فهزَّت مشاعره وأيقظت قلبه وخطفت بصره بمثل السرعة التي خطفت بها روحه، فقد أولته الحسن دون عناء ، وأن يدخر منه لبقية عمره ما يشيع فيه السرور والأحلام، فيمضي في عالمه كالحالم لا يفيق أو بالأحرى لا يرغب أن يفيق.

انزوى بعيدًا عن الناس والدنيا، يتربَّع قرب الصخرة المشرفة، والمصحف بين يديه يتلو ما تيسَّر منه في صوت فتيٍّا نديٍّا عذبًا كأنه بُعث من جديد، وهتف المؤذن بصوته الجميل، صداه عذبًا كأنه ينداح في نغمة حزينة لا تتلاشى. فتطرب له النفس والدنيا " الله أكبر … الله أكبر". انجذبت نحوه روحه، فالصلاة في القدس ملاذًا وسكنًا وفوقهما مغفرة الله ورحمته والبركات.

وسرعان ما تغيَّرت حاله ورفَّت على حواسه الملتهبة بسمة رطيبة أذهبت رياح الحصار الهمجي، والجرح الملتهِب كظلَّ يُثقِل على أرواح السجناء. ونفسه أخذت تسترد من الراحة ما تبل به جوانح احترقت أو كادت، ومضت فترة وجيزة في سكون جاد بها المقام المشهود، فسر بها سرورًا مسح عن صدره الضيِّق. وآثار القلق والخوف، فارتاح لانطلاق الفضاء أمامه، لأن أخوف ما كان يخافه أن ينتظر، أو يتعذر عليه بعد اللقاء.

فلا يرى القدس، بعد أن أشفى منه على اليأس، فالشوق إليها، كشرف الاستقلال، الحرية، الوحدة كالنهار والليل لا ينفصلان، وحدثه قلبه بأن الأمل المشرق  قد بات قريب المنال، فمَن استطاع أن يشد الرحال قبل أن يُسكِته الموت؟

وإن أدى الإنسان ثمنه من دمه وراحة باله، فليشرق الأفق أو فليغرب ويضطرب، ويسير في حيرة، ويتحير في رجاء. بيقظة دبت في قلب منقسم، أو شك أن يُجنَّ لهفةً، لوحدة الأوطان فرحة وراجعه الأمل و الرجاء. هدفه ومعناه، ويرجو في خوف، ويخاف في رجاء؛ ولبث بموقفه مدة من الزمن، وبدا  فرحًا مسرورًا، وهمس بصوت منخفض يترنَّم كالمناجاة: اللهم حمدًا وشكرًا. وحدة واستقلال.

البوابة 24