"لو تموت بترتاح وبتريّح".. ذوو إعاقة يواجهون النار و"الوصمة" في مخيمات النزوح بغزة!

ذوو إعاقة.jpg
ذوو إعاقة.jpg

غزة/ البوابة 24- أحلام عبد القادر

داخل خيمة عائلتها المهترئة بمواصي خانيونس، جنوبي قطاع غزة، تتخذ "منى" (اسم مستعار) زاويةً لا تبرحها منذ ستة أشهر، أي منذ تاريخ نزوح عائلتها من مدينة رفح، إثر اجتياحها بريًا من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.

"منى" (20 عامًا)، شابةٌ من ذوات الإعاقة الحركية، وتعاني تلعثمًا في الكلام، مردّه إلى خلل في الجهاز العصبي، وضعف في عضلات اللسان، كما تروي والدتها لـ"البوابة 24"، وتعاني منذ ما قبل اندلاع الحرب، في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، انطواءً مطبقًا، "لكنه تضاعف لدرجة العزلة التامة بعيد الحرب" تستدرك.

وتقول هامسةً لئلا تسمعها ابنتها: "تحدثني منى كل يوم بأنها صارت تتمنى الموت، وتحكي لي بصوتها الذي أفهمه إن وجودها لم يعد له أهمية في هذه الحياة".

بدأت الحكاية، عندما حطت العائلة رحالها لأول مرةٍ بين خيامٍ للنازحين من كل أنحاء قطاع غزة، "وفي اليوم الأول، وبعدما نصبنا الخيمة، خرجتُ بها، وأجلستُها على الأرض لترى الشمس. لأجل المصادفة، كانت مجموعةٌ من النساء يطبخن على نار الحطب، ويتبادلن أطراف الحديث، ولما رأوها بدأ الهمز واللمز".

تضيف: "كنتُ أنا في الداخل، ولما خرجتُ وجدتُها غارقةً بدموعها تطلب العودة إلى فراشها. أخبرتني أن النساء نظرن إليها بشفقة، وبدأن يحوقلن، وإذا بواحدةٍ تقول: والله اللي مثل هادي الموت أرحم إلها ولعيلتها".

تغمض السيدة عينيها محاولةً تجاوز الفكرة، وتقول: "منى هي روحي. لا أستطيع حتى التفكير بأنني سأخسرها. منى ذكية وبرغم انعزالها عن أقرانها في المدرسة لنفس السبب منذ كانت طفلة -الوصمة المجتمعية ونظرات الشفقة والاستهزاء- إلا أنها تعرف القراءة والكتابة، وقلبها مثل بياض الثلج".

تذكر الأم يوم نزوح عائلتها من رفح (حيث لمنى خمسة إخوة، هي أكبرهم)، وتقول: "تحت النار خرجنا، نحمل بعض الاحتياجات والملابس. وكان كرسي منى المتحرك يحتاج إلى صيانة، فعجلته مكسورة. حمله أحد إخوتها، بينما حملتُ منى أنا! كما لو كانت رضيعًا في حضني"، مردفةً بحرقة: "صارت تبكي وتصرخ: خلص سيبوني وروحوا. اتركوني أنا مش مهم، انجوا بأنفسكم".

تشير الأم إلى حالةٍ نفسيةٍ صعبة تعاني منها "منى" نتيجة وضعها الذي تفاقم أضعافًا في الإبادة. "حتى دخول الحمام معاناة بالنسبة لها، وأحيانًا أضطر لتلبية طلبها بدخوله، من خلال وضع كيس في دلو، وتركها تقضي حاجتها فيه وهي تتكئ علي"، موضحةً أن الوضع الغذائي والعلاجي والاجتماعي المحيط بها، صار صعبًا للغاية، "وهذا ما يدفعها لتفضيل البقاء داخل الخيمة طوال الوقت".

محدودية فرص النجاة

ووفق بيانٍ للجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الأشخاص من ذوي الإعاقة، نشرته نهاية مايو/ أيار 2024م، أن الأشخاص ذوو الإعاقة في غزة يعيشون حالةً من الكرب الشديد، ويتوقّعون أن يكونوا أول أو لربما ثاني من يُقتل بسبب محدودية فرص الفرار أو المشاركة في عمليات الإخلاء نتيجة إعاقاتهم على اختلافها.

وقبل السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023م، أبلغت 21% من الأسر في غزة عن ضمّها فردًا واحدًا على الأقل من ذوي الإعاقة، وتم تحديد 58,000 شخص من ذوي الإعاقة في قاعدة البيانات الرسمية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023م، بُترت أطراف أكثر من 1,000 طفل -حسب بيان اللجنة- "إلا أن هذه الأرقام قد تكون ارتفعت بشكل حاد بعد مرور أربعة عشر شهرًا على اندلاع الحرب وتصعيد الأعمال العدائية".

وتبدو "الوصمة" المجتمعية، عدوًا آخر يؤرق حياة ذوي الإعاقة في مجتمعات النزوح المفتوحة، "التي تضم أشخاصًا من كل حدب وصوب، يتفاوتون في مستوى الفهم والإدراك والتعليم، وحتى الأخلاق" كما تحدثنا إيمان العثامنة، زوجة "جهاد" ابن العائلة ذاتها، الذي لم يبرح خيمته منذ أشهر أيضًا، لهذا السبب.

عودة إلى نقطة الصفر

في خيمته الصغيرة داخل مخيم إيواء "إنسان" الخاص بالمرضى وذوي الإعاقة، بدير البلح وسط قطاع غزة، يجلس جهاد متكورًا على نفسه. تتشبث عيناه بسقف الخيمة الذي يهتز مع الرياح ولا يتفوه بكلمة. تقول زوجته إيمان: "إنه على هذه الحال منذ اندلعت الحرب".

جهاد، الذي أصيب بإعاقةٍ حركية منذ 18 عامًا، عندما دفعه جنديٌ إسرائيليٌ من سطح بيته، قبل أن يرتكب مجزرةً بحق عائلته راح ضحيتها 3 من أشقائه، لم يعد قادرًا على المواصلة -على حد تعبير زوجته.

"الحرب قتلت كل ما حاولتُ بناءه من دروع نفسية. لقد دمّرت ثقته بنفسه وأشعرته بالعجز التام يا للأسف" تضيف السيدة التي تزوجته قبل 10 سنوات، وحاولت دعمه وترميم ثقته بنفسه من خلال دفعه للإنتاج كشريك حقيقي في المنزل، بأي مجال من المجالات "ولو بالمشاركة في رعاية ابنته الوحيدة التي أنجبناها بعملية تخصيب صناعية" تقول.

منذ أن اضطرت العائلة للنزوح من بيتها في مدينة بيت حانون، شمالي قطاع غزة، في الثالث عشر من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، ولم يعد لديها مأوى أو معيل، "التفت جهاد لحقيقةٍ مرة، وأيقن أنه عاجز تمامًا عن تقديم أي شيء للأسرة. أكثر ما يؤلمه أنه يشعر بكونه عبء على الموجودين" تخبرنا إيمان.

في المجتمع المفتوح على بعضه، داخل مخيمات النزوح، يعاني ذوو الإعاقة ظروفًا لا إنسانية، تنتهك أصغر حقوقهم في العيش بكرامة، ابتداءً بانعدام توفر أساسيات الحياة الموائمة، وليس انتهاءً بالوصمة التي صاغها المجتمع على مقاسهم كـ"عاجزين" و"أعباء" في تفاصيل الإبادة.

تتحدث إيمان، عن تفضيل زوجها "الاختفاء عن الأنظار"، ليبتعد بنفسه عن الهمز واللمز، "وعن أعين الأطفال الذين يتعمدون مضايقته، إلا من رحم الله"، إذ لطالما سمع جهاد بأذنيه وصفه بـ"العاجز" -كما تؤكد- "وهو أمر يجعله يتمنى الموت أحيانًا" تقول، مردفةً بقهر: "ما يعيشه ذوو الإعاقة حقًا يكسر الظهر".

وتتحمل إيمان العبء كله لتدبير شؤون الأسرة، حيث والدة زوجها امرأة سبعينية كفيفة، تدهورت حالتها الصحية منذ "مجزرة العثامنة" في العام 2006م، وشيئًا فشيئًا فقدت بصرها، وأنهكها الحزن.

"لا أريد صورة"

وبينما قطع جهاد مراحل طويلة من عمره برفقة الإعاقة، يبدو الطفل ياسين الغلبان (11 عامًا) غير متقبلٍ حتى هذه اللحظة، أنه فقد ساقيه إثر استهدافه بصاروخٍ مباشرٍ أطلقته عليه مسيّرة إسرائيلية، عندما صعد فوق أنقاض بيت عائلته المدمر بمنطقة "معن" شرقي خانيونس، لرفع أذان صلاة الجمعة بتاريخ 12 نيسان/ إبريل الماضي.

وفي الوقت الذي بدأت أمه الحديث مع "البوابة 24" لرواية قصته، بدأ هو بالصراخ، رافضًا بشدة فكرة التقاط أي صورة له أو لأمه التي كانت تجلس بالقرب منه.

تقول والدته فدوى المصري (43 عامًا): "تحول طفلي النشيط المفعم بالأمل، لشخص آخر سريع الغضب، يتحدث بصراخ شديد، ويفضل البقاء بعيدًا عن الناس"، موضحةً أنها كان يدرس في إحدى مدارس الخيام القريبة، لإتمام مرحلته الدراسية في الصف السادس، "إلا أنه تركها بعد يومين من عودته بعد بتر ساقيه، لمعاناته الشديدة في الحركة، وعدم قدرته على مجاراة أقرانه في اللعب، ونظرات الشفقة التي تحيط به من قبل أصدقائه، وأحيانًا المضايقات التي يلاقيها من قبل بعضهم"..

قبل الجريمة بأربعة شهور، فقد هذا الطفل والده وأحد أشقائه، بينما أصيب آخر ببترٍ في أصابع قدمه، جراء قصف عنيف استهدف مدرسة "معن الجديدة" التي أوت لها هذه الأسرة، استجابة لإنذارات إسرائيلية سبقت الاجتياح الواسع لمدينة خان يونس، في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر 2023م.

تعلق والدة ياسين آمالها على انتهاء الحرب، وتقول: "ربما لو ركب أطرافًا صناعية، يمكنه أن يجاري أقرانه، ويخرج من حالة العزلة التي وضع نفسه رهينةً لها منذ نحو ثمانية أشهر".

زوجان من ذوي الإعاقة وكرسي واحد!

وفي خيمة بالمواصي تزحف زينب للقيام بواجباتها اليومية كزوجة ذات إعاقة لزوج ذي إعاقة، ولديهما طفلان، وقد نزحت هذه الأسرة من مخيم الشابورة بمدينة رفح عشية اجتياحها بريًا في مايو/أيار الماضي.

يعاني الزوجان زينب ونهاد جربوع من الإعاقة الحركية، وقد بتر الأطباء ساقيها من فوق الركبة بعد زواجها بأربع سنوات نتيجة مرضٍ مفاجئ، فيما زوجها يعاني شللًا في أطرافه السفلية منذ الولادة.

ومنذ نزوحها تنقلت أسرة جربوع من مكان إلى آخر، حتى استقرت في هذه الخيمة التي تقول زينب إنها تفتقر لكل احتياجاتهما كزوجين يعانيان من إعاقة، فيما يشبهها نهاد بـ "السجن". ويقول: "لا يوجد في الخيمة مرحاض يراعي حالتنا، ونضطر إلى قضاء حاجتنا في وعاء من البلاستيك".

تمسك زينب بطرف الحديث وتواصل شرح المعاناة: "المخيم في منطقة رملية، والخيمة لا تكاد تنظف من الرمال، وهذا الأمر يرهقني يوميًا بكنسها وتنظيفها، ناهيكم عن أنني أطبخ طعام عائلتي على النار، وهذه بحد ذاتها مأساة".

"والله النزوح صعب على الناس العاديين فما بالكم بزوجين من ذوي الاحتياجات الخاصة؟!"، يتساءل نهاد وهو يجلس على كرسي متحرك قديم ومتهالك، يتشاركه مع زوجته، حيث لا يتوفر لكل منهما كرسي خاص.

وبصعوبة بالغة وبمساعدة ابنهما، يتحرك نهاد وزينب على هذا الكرسي في دائرة ضيقة لا تزيد على بضعة أمتار داخل الخيمة وفي محيطها، نظرًا لطبيعة الرمال الساحلية التي تحيط بالمكان، وتزيد حياتهما تعقيدًا حتى في قضاء أبسط احتياجاتهما اليومية.

تتحدث جربوع عن مشاعرها، عندما تقرر الخروج من الخيمة، "ويا سلام لو خرج زوجي قبلي. تلاحقنا النظرات، والهمزات واللمزات، وهذا يزعج نهاد كثيرًا، لكنني أحاول أن أصبّره ببعض الكلمات" تقول، وتتابع بقهر: "أنا نفسي أنزعج لكنني اعتدت. اعتدت على تساؤلات النساء، وخوضهم في تفاصيل لا تخصهم. اعتدت على نظرات الشفقة، وأحيانًا كثيرة نظرات الاستهزاء والسخرية. هذا لم يعد يهمني كثيرًا الآن".

تنتظر زينب انتهاء الحرب بفارغ الصبر، حتى ترجع إلى بيتها، وتعيش بين جدرانه الأربعة، بعيدًا عن الأذى النفسي الذي تتكبده نتيجة معيشة النزوح المرة.

علاج الآثار النفسية مرتبط بانتهاء الحرب

ومن شأن الحرب أن تزيد من أعداد من يندرجون تحت فئة ذوي الإعاقة، وتشير تقديرات منظمات صحية محلية ودولية إلى أن الحرب تسببت فيما يزيد عن 11 ألف حالة بتر للأطراف السفلية، من بينها 4 آلاف حالة لأطفال، إضافة لحالات غير معلومة لبتر الأطراف العلوية.

وللحرب أثرها العميق على هذه الفئة من الضحايا أكثر من غيرها، ووفقًا لأخصائية الصحة النفسية في جامعة الأقصى، د.آمنة حمد، فإن الذكريات الأليمة تعيش طويلًا مع ذوي الإعاقة، وتزيد لديهم الاضطرابات النفسية، وقد تعاني شريحة منهم من العزلة، خاصة خلال فترة الحرب؛ لعدم القدرة على التأقلم والتواصل الجيد مع الوسط المحيط، حيث الكل منشغل عن هذه الفئة بالخوف والقلق والتفكير في النجاة والنزوح.

ويشعر ذلك الشخص من ذوي الإعاقة بأنه ليس "مركز اهتمام" حتى لدى الدائرة القريبة منه، وأنه تحول بالنسبة لهم إلى عبء -لا سيما ذوي الإعاقة الحركية- الذين يحتاجون إلى من يحملهم وأمتعتهم إذا اضطرت أسرهم للنزوح والهرب من المخاطر.

وتضيف الاختصاصية: "هذه الفئة أكثر عرضة للعزلة والعنف المعنوي والجسدي وحتى الجنسي، خاصة الفتيات والأطفال، وهم الأكثر هشاشة، فيما الرجال من هذه الفئة يعانون من تدني احترام الذات، لشعورهم بالعجز عن القيام بأدوارهم التقليدية".

وبرأي الدكتورة آمنة فإن الحرب تعيق معالجة هذه الآثار ومنع تدهورها، "فذوو الإعاقة بحاجة إلى بيئة آمنة، ووسط قريب يعزز لديهم الشعور بالثقة وأنهم لا يزالون محط الاهتمام، وأن ولديهم أدوار مهمة في حياة الأسرة والمجتمع"، متمنية انتهاء الحرب في القريب العاجل، لإفراغ مساحة علاجية لهم، تختص بالدعم النفسي والتفريغ، والحث على الإنتاج في هذا المجتمع.

البوابة 24