لم يكن محمد الضيف رجلًا يظهر في العلن، بل كان اسمه فقط هو ما يتردد، مرتبطًا بعمليات عسكرية معقدة، ورسائل صوتية قليلة كانت تهزّ الاحتلال، ثم يعود إلى الظل. لعقود، ظل شبحًا لا يُرى، حاضرًا في ساحة المواجهة وغائبًا عن الأنظار، حتى جاء يوم استشهاده ليكشف بعضًا من ملامح حياته، ليس من خلال صوره أو خطاباته، بل عبر شهادات من عاشوا في كنفه.
في 31 يناير/ كانون الثاني، أعلن الناطق العسكري لكتائب القسام، "أبو عبيدة"، استشهاد محمد الضيف مع مجموعة من قادة القسام خلال معركة "طوفان الأقصى". وعقب ذلك، التقت وكالة "سند" زوجته غدير صيام "أم خالد" (40 عامًا) لتكشف عن تفاصيل لم تُروَ من قبل عن الرجل الذي كان "الأب والزوج والصاحب" كما تصفه.
زوجته غدير صيام "أم خالد" (40 عامًا) كشفت عن تفاصيل لم تُروَ من قبل عن الرجل الذي كان "الأب والزوج والصاحب" كما تصفه.
ضيف بلا أثر.. إلا في القلوب
لم يكن "أبو خالد" من أهل الدنيا، كما تقول زوجته. عاش مختفيًا عن أعين الناس بسبب احتياطاته الأمنية، حتى إنه لم يستخدم الأجهزة الإلكترونية مطلقًا، معتمدًا على الورق في إدارة شؤونه. "كان حريصًا جدًا، حاملًا هم الأقصى دائمًا"، تضيف أم خالد.
كان مثقفًا واسع الاطلاع، له رؤية خاصة في القضايا المختلفة، مؤمنًا بأن على الضفة الغربية التحرك لمواجهة الاحتلال ومستوطنيه. اهتمامه لم يكن عسكريًا فقط، بل كان فكريًا واستراتيجيًا.
تدوين التاريخ بأيدي الشهود
لم تترك زوجته تفاصيل حياته تُمحى بالزمن، بل دوّنتها في مذكرات خاصة، تقول: "بدأت كتابة حياته منذ زواجنا، أرّخت محطاته المفصلية، من مطاردته في التسعينيات إلى تأسيس خلايا القسام في الضفة، ومن حرب الفرقان إلى سيف القدس وصفقة وفاء الأحرار". حتى جوانب حياته اليومية، وزواجه الثاني الذي انتهى باستشهاد زوجته، وثقتها لتكون مرجعًا للأجيال القادمة.
الزوج والأب.. وسط المعركة
رغم قيادته الجناح العسكري لحماس وانشغاله بالعمل السري، لم يمنعه ذلك من الاهتمام بأسرته. كان أبًا حاضرًا، يعلم أبناءه بنفسه، خصوصًا في المواد العلمية والرياضيات، ويحرص على أن يفهموا لا أن يحفظوا. وضع لهم جدولًا صارمًا يشمل قراءة الكتب، حفظ القرآن، ممارسة الرياضة، وتطوير اللغات.
كان موسوعة علمية، كما تصفه زوجته، لديه قدرة استثنائية على الإجابة عن مختلف الأسئلة، أشبه بمكتبة متنقلة. لم يكن يعزل عائلته عن فكره المقاوم، فقد علّق في منزله لوحًا كبيرًا وخريطة فلسطين تضم أسماء شهداء القسام، يدرّس أطفاله عليها.
حياة الزهد والانضباط
لم يعرف البذخ يومًا، مقتديًا بحديث النبي "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم"، مستشهدًا بالقرآن في أحاديثه عن الترف. كان منظمًا حد الدقة، يبدأ يومه بصلاة الفجر مع أبنائه ورجاله، ثم يتابع دروسهم ويخصص وقتًا للقراءة. حتى طعامه كان محسوبًا، يتناول خمس وجبات صغيرة صحية، ويعتمد على الأعشاب والمشي، رغم إصابته التي أعاقت حركته.
جراح لم تُسقطه
استشهاده كشف عن حجم الإصابات التي تعرض لها خلال محاولات اغتياله، أخطرها في 2006 حين فقد إحدى عينيه وأصيب بحروق بالغة. تروي أم خالد: "كنت أطبب جراحه، تعلمت كيف أعطيه الإبر وأضمد عينه وأتابع علاجه، عشنا عامًا كاملًا تحت الأرض لنرعاه".
ورغم كل محاولات الاحتلال لإسكاته، عاش الضيف يقاوم حتى الرمق الأخير، تاركًا إرثًا لن يُمحى من الذاكرة الفلسطينية.