"أرامل" بغزة داخل حلقة "الزواج القسري".. "شقيق الزوج أولى"! | قصص حقيقية

ارام.png
ارام.png

غزة/ البوابة 24- ريم سويسي

في آخر مرةٍ رآها فيها ابتَسم. همسَ في أذنها محاولًا تطبيب قلبها المتعب من ويلات "النزوح": "هدية السماء أنتِ"، مسحَ على رأسها المثقل بمخاوف الموت، وغادرَ الدنيا وحده.

استشهد زوجُ "رحيل"، فأعطاها من اسمها نصيبه، وتركها وحدها برفقة طفلٍ يبلغ من العمر شهرين. "كانت صدمة. أنا حرفيًا وجدتُ نفسي وحيدة، بلا زوج، ولا أهل، ولا أي خيارات" تقول لـ"البوابة 24".

انتهت العدّة. صارت نظرات حماتها تلاحقها طوال الوقت، وكأنها تريد أن تخبرها بشيء. في كل مرةٍ كانت تتراجع وتبكي، وهي التي لم يبرد دم ابنها بعد قصف المدرسة التي كانت تؤويهم في مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة.

طال ليل رحيل، ولازمها الخوف، حتى من نظرات حماتها، التي رمت في وجهها قنبلةً فجأة: "بدي أزوجك لأخو أحمد".

تحكي: "رغم أنها تعرف تمامًا أنني لم أكن أفكر في الزواج، إلا أنها ضغطت علي لأقبل بابنها الآخر، فهي لا تريد لحفيدها أن يغادر عائلة أبيه، أو يترعرع في حضن شخصٍ غريب.. هكذا أخبرتني".

الأمر لم يكن بهذه السهولة، رحيل، أضحت زوجةً الآن لشقيق زوجها "المتزوج" أصلًا، "وهذا كلفني الكثير" تعلق.

وتضيف: "عاملتني زوجته وكأنني قتلت عائلتها، وهدمت بيتها، بدأت بيننا مشكلات لا يمكن لأحدٍ أن يتخيلها"، مشيرةً إلى أنها لا تعيش حياةً مستقرةً أبدًا، "وكل ذنبي أنني وافقت على عرض زواج، لأجل كرامة طفلي ومستقبله، لا من أجل نفسي" تستدرك.

تعارض رحيل اليوم فكرة الزواج من أخ الزوج، بعد وفاته أو استشهاده -هذا ما تقوله لكل من يسألها النصيحة- "فهو زواجٌ إما أن يتم بالإكراه، أو أن تحيط به المشكلات منذ أول عهده".

وحصدت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، أرواح أكثر من 48 ألف شهيد، وشهيدة، وخلفت آلاف الأرامل والأيتام، وكابوسًا اجتماعيًا كبيرًا أحاط بتفاصيل المشهد، أصعبه زواج الأرامل بأشقاء أزواجهن.

أرملةٌ ومطلقة.. وأم لطفلين!

"زواجٌ محكومٌ عليه بالفشل، لكن يا للأسف، فإن آخر ما يفكر به المحيطون بك، هو مشاعركِ كامرأة"، هكذا بدأت "سها" حديثها بمجرد أن جلَسَت على الكرسي، في المكان الذي طلبنا منها اللقاء فيه.

كانت ملامحها حادة، تشبه طبيعة الحياة التي عاشتها أربع سنواتٍ مضت، قبل أن تصل الحكاية إلى "نهايتها الطبيعية" وفق تعبيرها، فتجد نفسها "مطلقة" وأمًا لطفلين، أحدهما من زوجها الشهيد، والآخر من أخيه "زوجها" الذي تقول: "إنه تزوجها كإرث، بعد ضغط أمه عليه".

كانت تعلم أن الأسئلة ستكون "قاسية"، لكنها آثرت المواجهة! كانت تريد أن تلفظ كل ما علق في قلبها من رماد تلك السنين، منذ تزوجت بشقيق زوجها، ضمن حلقة تقليدٍ اجتماعيٍ، يُحتّم على أرامل الشهداء -إلا من رحم الله منهن- الزواج بأحد إخوتهم، سواءً كانوا عازبين أو متزوجين؛ ذلك لأسباب عدة، على رأسها الأولاد، ومن أهمها الميراث "ألا يذهب لرجلٍ غريب (زوجٌ آخر)".

"سها" (اسمٌ مستعار)، أنجبت طفلها الأول، بعد استشهاد زوجها. وُلد يتيمًا في بيت العائلة الكبير، ليبدأ التفكير بحلٍ يضمن بقاء أمه قربه، وبقاءهما معًا في إطار العائلة، "ولو على حساب عواصف من المشكلات النفسية والاجتماعية" تقول لـ"البوابة 24".

تخبرنا: "بعد وفاة زوجي، وانتهاء العدة، طلبت مني حماتي الزواج بأحد أبنائها المتزوجين. في البداية رفضت، لكن تحت إصرارها الشديد، الذي وصل إلى حد تهديدي بحرماني من طفلي وافقت".

تضيف: "تم الزواج، وكنت أعلم أن زوجي الجديد لا يطيقني، بل إنه مثلي، رضخ للأمر كما رضختُ أنا. كان زواجًا على الورق، ولم يلمس يدي حتى لمدة شهرين".

بعدها، قررت سها أن تتعايش مع الواقع، وأن تبني أسرتها من جديد ليعيش طفلها في جوٍ عائليٍ سوي، وكان لا بد أن تعيش شعور الزوجة بتفاصيله. لم يكن أمامها خيار إلا أن توضح لحماتها أن قرارها كان خاطئًا، فاشتكت لها جفاء زوجها، وشرحت الأمر بحرقة، وهنا تكمل: "وبّختهُ أمه، وتحدثت معه بسياق الحلال والحرام، وأنني زوجته الآن، ولي عليه حقوق، وهنا رضخ".

أثمرت هذه المعاشرة عن طفلٍ جديد، لكن زوجة زوجها الأولى، لم تتركها وشأنها. تقول: "مارست عليه ضغطًا نفسيًا شديدًا، وبناءً عليه تم الطلاق بعد حياةٍ مُرة عشتُها معه أربعة أعوام من الجفوة والقسوة والشعور بالظلم".

تدرك "سها" اليوم، أن هذا التقليد، وإن كان انحسر لدى بعض العائلات في سنواتٍ مضت، إلا أنه سيعود بقوةٍ بعد حرب الإبادة على حد تعبيرها، نتيجة كثرة الأرامل، وخشية العائلات من زواج الأمهات وترك الأطفال لتتقاذفهم الحياة، ناهيكم عن طمع بعض العائلات بإرث زوجة ابنهم منه، في حال كان ميسورًا.

ولا تتوقف أحداث هذا الظلم العشائري -في حال اعتمد على الإجبار- عند ضحيةٍ واحدة، بل يمتد ليصبح مأساةً أكبر، تبدأ من عند الزوجة، وتمتد لتصيب شقيق الزوج، وزوجته لو كان متزوجًا قبلها، وأطفالهما أيضًا.

"أخي حاجز بيننا"

أحد ضحايا هذا العرف الاجتماعي، كان الأعزب أسعد (32 عامًا)، الذي لطالما حلُم بالزواج من حبيبته "سلوى"، إلا أن وفاة شقيقه في حادث سيل قبل عامين، قلب حياته رأسًا على عقب.

يحكي: "تزوجت بأرملة أخي التي تكبرني بأربع سنوات، وتخليتُ -لأجل مصلحة العائلة كما أقنعوني- عن حب حياتي، ومستقبلي الذي كنت أخطط له".

ويضيف: "كنت أرى أخي في كل تفاصيل حياتي مع زوجته! كنت أراه حاجزًا بيني وبينها حتى في السرير. كنتُ أشعر بأنني خائف من أن يلومني طوال الوقت".

في نفس الوقت، كانت الزوجة متعلقة بزوجها الأول، تخبئ صوره، وتسرح كثيرًا كلما ذكره أحد. "وفي مرة ذكرت اسمه بدلًا من اسمي، فغضبتُ كثيرًا لأن الأمر بات يستفزني كثيرًا".

يعرف أسعد أن زوجة شقيقه أجبرت على هذا الزواج من قبل أهلها الذين رأوا في زيجتها من أعزب، فرصة، وفي أن يربي أطفالها عمهم فرصةً أكبر. يختم الرجل بغضب: "أكره هذه التقاليد العشائرية. أكره أن يلغى رأي الشخص وقراره لمجرد أن هناك مصالح للعائلة لا علاقة له هو بها. لا أظن أن الله يرضى بهذا الظلم أبدًا".

"لماذا أدفع أنا الثمن؟"

أم عبيدة -هكذا أرادت أن نناديها- هي الأخرى تقول إنها "دفعت ثمنًا كبيرًا جدًا، وظَلمت بدون وجه حق"، عندما توفي استشهد شقيق زوجها في حربٍ مضت.

تقول، بينما تفرك يدًا بأخرى: "تزوج زوجي بزوجة أخيه. كان الأمر صعبًا للغاية، فتركت البيت وغادرت إلى بيت أهلي، لكنني نهايةً رضختُ بعدما لم يكن هناك خيار، وبعدها عاهدني زوجي بأنني سأكون الأولى في قلبه والأخيرة، وأن هذا الزواج الجديد ليس إلا حمايةً لأبناء أخيه".

تزيد: "شعرتُ منذ ذلك اليوم أنني أعيش مع نصف رجل، وقته مقسوم بين بيتين، ومسؤولياته لم تعد تقتصر على بيتي وأولادي وحسب"، متسائلةً بحرقة: "لماذا يجب على أن أدفع ثمن الحفاظ على أسرة شخص متوفى؟ انقلبت حياتي رأسًا على عقب، وانهارت علاقتي بزوجي وأطفالي. صرتُ أكلم نفسي كالمجانين، وأعيش عصبيةً وتوترًا حادين طوال الوقت. لماذا أدفع أنا الثمن؟".

وتردف بحسرة: "ما يزيد ألمي، أن عائلة زوجي أرغمته على الموافقة، ليس فقط من أجل الأطفال، بل للحفاظ على راتب زوجي الأول من أن أضيعه كما كانوا يظنون".

تؤكد أم عبيدة رفضها القاطع لهذا النوع من "الظلم الاجتماعي"، الذي لا يكترث لمشاعر الزوجة، ولا حتى شقيق الزوج الأول، "بل يهدم أكثر مما يبني، وينظر فقط بعين العقلية العشائرية، لمصالح مادية بحتة".

من أين جاء هذا العرف؟

لكن، من أين جاء هذا العرف الاجتماعي؟ وكيف حوّل حياة أشخاصٍ إلى جحيم؟ يجيب الإخصائي النفسي محمد حلس بقوله: "أتى من ثقافة المجتمع، التي تقضي بضرورة المحافظة على أسرة الشخص المتوفى، كنوعٍ من تخليد اسمه وذكراه، وإبقاء أطفاله في كنف الجد والجدة والأعمام، والحفاظ على أملاكه وميراثه من أن تضيع على غريب في حال تزوجت الأم".

ويضيف في حديثه لـ"البوابة 24"، حول إمكانية نجاح هذا النوع من الزواج بالقول: "في بعض الأحيان يكون هذا الزواج حلًا، بينما في أحيان كثيرة يكون نقمة"، مردفًا بقوله: "قد يفتح هذا الزواج بابًا من المشاكل الكبيرة بسبب الخلافات مع الزوجة القديمة، أو الخلافات مع أبناء المتوفى وعمهم الذي أصبح زوجًا لأمهم، بالذات في حال رفضوا سلطته عليهم بسبب الوضع النفسي الصعب، وتبعات فقد والدهم".

وحول نظرة الشرع لهذا الزواج، يؤكد الدكتور ماهر السوسي، أستاذ الفقه بالجامعة الإسلامية، أنه "لا مانع شرعًا من زواج الأرملة من شقيق المتوفى، إذا توافرت شروط الزواج الشرعية، التي أهمها الرضى والقبول من الطرفين".

البوابة 24