غزة/ البوابة 24- ريم سويسي:
"لو كنتُ أعلم أن هذه ستكون مكافأتي بعد صبر 15 شهرًا في مخيمات النزوح جنوب غزة، لما تركت جباليا أبدًا"، بهذه العبارة، بدأت ياسمين (اسم مستعار) حكايتها لـ"البوابة 24"، قبل أن تنخرط في دوامة بكاءٍ مرة.
وتقول: "أبلغني زوجي بزواجه بثانية بعد نزوحي بسبعة أشهر. قال إنه لن يصبر أكثر بدون زوجة تقوم على رعاية احتياجاته".
تعود السيدة البالغة من العمر (32 عامًا) بذاكرتها إلى ذلك اليوم، الذي أجبرها فيه زوجها على النزوح بأطفالها الأربعة إلى جنوبي وادي غزة، حيث ادعى الاحتلال أن المناطق آمنة!
حدثَ ذلك في الرابع عشر من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، حين حملت ياسمين بعض الأغطية والفراش، أوراق أطفالها الرسمية، وشهاداتهم المدرسية، وودعت من كانت تسميه في هاتفها "نور عيني"، واستودعته الله هو والبيت الذي جمعهما معًا تحت سقفه لأول مرة، ومضت.
تقول: "آثر زوجي البقاء في البيت ليحرسه من اللصوص. لم أعترض، برغم أنني كنت خائفة جدًا من حمل المسؤولية وحدي".
طوال 15 شهرًا في الإبادة، لم يفرق الاحتلال الإسرائيلي خلالها بين شمالٍ وجنوب، في القصف والاستهداف والتجويع والمنع والاعتقال، حملت ياسمين المسؤولية وحيدة. بدأت في رفح، نازحةً عند أقارب لزوجها، لاقت خلالها مرارة الاستضافة الطويلة، ثم تركت المنطقة بعد أن طالها القصف، لتغدو نازحةً في مواصي المدينة الجنوبية، داخل خيمةٍ صنعتها من الأغطية، وأكياس النايلون.
تحكي بحرقة: "أكبر أطفالي بعمر 11 سنة. كان يساندني في جلب الماء، وتوفير الطعام من التكايا الخيرية. كنتُ أقاسي ليالي النزوح وأنا أحرس الخيمة! هذا فأرٌ ضخم اخترق أمانها، وذلك كلبٌ يعوي أمام الباب في انتظار لقمة، وهذه طفلتي ابنة الأعوام الثلاثة ترتفع درجة حرارتها، وأنا وحدي، أسعى في البحث عن الحطب، وفوق هذا كله، أعاني الخوف والقلق على زوجي الذي عايش الموت أشكالًا في الشمال".
وتضيف: "كنتُ أحرص على بقاء هاتفي مشحونًا طوال الوقت لأطمئن على حاله، هذه كانت معاناة إضافية، وكنت أكرر الاتصال عليه لساعات حتى يرن رقمه، أسمع صوته فأطمئن لكونه بخير، وهذا وحده كان بمثابة طبطبة على قلبي تصبرني على ما أنا فيه وحدي".
"لا أراها إلا خيانة"
مرت الأشهر السبعة الأولى بطيئة، مرعبة، وفي كل اتصالٍ كان يظهر زوج ياسمين تأففه من امتداد فترة الحرب. "متى تنتهي الحرب؟ متى يزول نتساريم؟"، بينما هي لا تمتلك إجابة سوى: "إن شاء الله قريبًا، نعود ونلتقي في بيتنا إذا حماه الله".
قُصف البيت، وبقيت فيه غرفة واحدة قائمة، هكذا أخبرها في آخر اتصالٍ بينهما، قبل أن تتصل بها أختها من مدينة غزة، بعدها بأيام، وتبلغها بأن زوجها عقد قرانه على جارةٍ لهم. تعرفها جيدًا، وقد استشهد أفراد عائلتها بينما نجت هي وأمها وأخواتها المتزوجات.
تقول: "لم أصدق ما قالته. أخبرتها أنه تحدث إلي قبل أيام، ولم أشعر بأي شيء. أن البيت لا يصلح للسكن الآن، وأنه اشتاق إلينا كثيرًا، لكنني استسلمت تمامًا بعدما اتصلت به، وقابل سؤالي بصمتٍ طويل، ثم ضحك باستخفاف، وقال: لا تخافي سأعدل بينكما".
أقفلت ياسمين الخط، ولم تستقبل أي مكالمات منه بعدها. بقيت طوال الأشهر التالية شاردة الذهن تسأل نفسها: "أهذا جزائي؟ أنا هنا وحدي، أحمل على كاهلي مسؤولية أطفالي، بينما هو يستمتع بحياته هناك! أي مبرر هذا الذي يسوقه؟ أي جنون هذا الذي حدث".
لا تستطيع ياسمين أن تصف تصرف زوجها، إلا بالخيانة، رغم حديث من توجهت إليهم بالشكوى عن أنه "حلال الله"، مردفةً بحرقة: "لم أتركه بإرادتي. لم تطل الحرب بإرادتي. صنتُ أولاده وعائلته واسمه طوال 15 شهرًا من الفراق، وكنت بمئة رجل.. كيف لم يحتمل هو وجود امرأةٍ قربه؟".
عادت اليوم، والتقت به وجهًا لوجه، فقط لتطلب منه الطلاق، وعندما رفض بحجة أنه لا يستطيع الاستغناء عنها، قررت البقاء في بيت أهلها إلى حين إيجاد حل.
اتصال كل شهر!
لم تكن ياسمين، الوحيدة التي كان حاجز "نتساريم" الذي فصل به الاحتلال الإسرائيلي شمالي قطاع غزة عن جنوبه، سببًا في تشتت عائلات وانفصال أزواج وخاطبين، بعدما طال أمد الحرب وقرر عدد من الأزواج، الذين نزحوا وحدهم، أو بقوا في شمالي القطاع وحدهم، الزواج بثانية.
فداء (35 عامًا) أيضًا، تقول: "نتساريم جلب لي ضرة"، مضيفةً بقهر: "لم أكن أعلم أنني سأدفع ثمن نزوحي إلى الجنوب بهذه الصورة".
نزحت فداء إلى جنوبي القطاع مع أطفالها بسبب المجاعة التي أكلت الشمال كله. وتحكي لـ"البوابة 24": "بقي زوجي هناك خشية أن يتم اعتقاله عند الحاجز العسكري. بقيتُ بعيدةً عنه ثمانية أشهر، ولم أكن أعرف عنه شيئًا إلا ما يخبرني به هو في كل اتصال بين الشهر والآخر".
تضيف: "علمت بزواجه حين عدت إلى الشمال، وجدتُ نفسي أمام مصيبة أبدية، لم أصدق نفسي، وشعرت بألمٍ شديد في صدري! كيف يفعل هذا بي؟ وأنا التي حملت كل الهم عنه وحدي في الجنوب؟ كيف هانت عليه العشرة بهذا الشكل؟".
تركت له البيت، وغادرت إلى بيت أهلها، فإذا به يرغمها على ترك الأولاد عنده. تقول: "صُدمت، فهم معي منذ ثمانية أشهر، لم يعرف عنهم خلالها شيئًا! كيف يأخذهم مني هكذا؟".
اشتاقت لأولادها، ولم ترغب بأن يدفعوا ثمن ما وصفته بـ"أنانية والدهم"، الذي لم يلق بالًا للعشرة ولوقوفي قربه طوال سنوات عمري التي مضت.
تحكي: "بعتُ مصاغي الذهبي من أجل بناء البيت، وتحملت معه سنوات لم يكن معه فيها ثمن اللقمة، لكنه تجاوز هذا كله ليكافئني بهذه الجائزة. تخيلوا أنه اتهمني بالتقصير، وأنني لا أهتم به وأنا في الجنوب!".
أمام هذا "العبث" على حد تعبيرها، لم تملك إلا أن تعود مرغمة. فبيت أهلها المهدوم جزئيًا لن يستطيع استقبال أحد، "ولكن كل واحد من عنده" كما يقولون.
تختم بحرقة: "نحن الفلسطينيات نحتمل سفر أزواجنا لسنوات، ونحتمل أسرهم لعشرات السنين، وننتظر، ونفرح لعودتهم كما لو أننا حزنا الدنيا، فماذا نسمي ما يفعلونه هم أخبروني (..) أنا الآن أعيش مع نصف رجل، ونصف حياة، ونصف مشاعر".
"تركتنا وحدنا ومضت.."
وبعيدًا عن التحريم والتحليل لقضية الزواج بثانية أو ثالثة أو حتى رابعة، فإن سياق التقرير، الذي لا يتناول ظاهرةً بالمناسبة، يخصص في مضمونه فترةً معينة تجاوزت العام، كان كل ما حدث خلالها من تشتت وفصل للعائلات، رغمًا عنهم، فلا تقصير يمكن الحديث عنه، ولا احتياجات، في ظل القصف، والنزوح، والمجاعة والاعتقال والموت المحيط بالناس من كل جانب.
وكما تحدثت الزوجات السابقات عن عدم وجود أي مبرر منطقي للزواج بأخرى خلال فترة الإبادة، ألقى أزواجٌ اللوم على زوجاتهم في قصص ثانية.
"لم يكن الأمر سهلًا، لكن الظرف هو الذي حتّم عليّ الزواج بثانية" قالها إسماعيل (44 عامًا) مبتسمًا.
خلال لحظةٍ واحدة، تحولت ابتسامته إلى ضحكةٍ واسعة، رافقها احمرار في الوجنتين، ثم تابع بانفعال: "لم أكن أتخيل أنني يمكن أن أتزوج على زوجتي ما حييت، لكنني فعلت، ولا أصدق حتى اليوم أن هذا حدث".
بدأت حكاية الرجل عندما كانت زوجته في زيارةٍ لبيت أهلها، يوم الجمعة، الثالث عشر من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، حين نوديَ للنزوح، فتركت خلفها زوجها وأولادها الخمسة، وأخبرتهم باتصالٍ هاتفي أنها سبقتهم إلى الجنوب مع أهلها، ومضت. كان أغلب ظنها أنهم سيتبعونها في نفس اليوم، لكن يا للأسف خانتها حساباتها هذه المرة.
يقول إسماعيل لـ"البوابة 24": "قررنا عدم ترك الشمال، وزوجتي لم تستشر أحدًا عندما غادرت برفقة أهلها، ولما أقيم حاجز نتساريم صارت عودتها مستحيلة".
يقدم "إسماعيل" لنفسه هنا مبررًا قويًا، وهو عدم مشاركة زوجته لهم في القرار، أو حتى السؤال فيما لو كانوا سينزحون أم لا، "لكنني أعرف أصدقاءً، ضغطوا على زوجاتهم للنزوح بالأطفال جنوبًا، ولما طالت الحرب تزوجوا" يستدرك.
ويردف بقوله: "هؤلاء لا مبرر لهم سوى أنهم خذلوا عائلاتهم. تخيلوا أنها في الجنوب وحدها، مسؤولة عن أطفال، تنزح من مكان لآخر، ومسؤولة عن توفير الحماية والطعام لأطفالها، بينما زوجها برأسه في الشمال، ويفكر بالزواج وتجديد شبابه".
"أطفال بحاجة لأم وطفلة بحاجة لأب"
بالنسبة لإسماعيل، لم يكن الأمر سهلًا -كما يحكي لنا- فالزواج من ثانية وبرغم أنه جاء من أجل إيجاد من ترعى الأطفال، حمل في طياته الكثير من المشكلات، لا سيما بينهم وبين زوجة أبيهم، "وبعد عودة النازحين، تفاقمت المشكلات، وعادت زوجتي، فصرت مسؤولًا عن عائلتين في آن معًا، ناهيكم عن المناكفات اليومية بين الاثنتين" يكمل.
تجلس إلى جانب إسماعيل زوجته الجديدة، وتُدعى أسماء، وهي محامية، تبلغ من العمر 33 عامًا. تقول بتهكم: "قال إيش جابرك عالمر؟"، ثم تشرح: "عشت ظروفًا شبيهة لظرف إسماعيل. نزح أهلي كلهم إلى الجنوب، بينما بقيت في الشمال وحدي برفقة ابنتي من طليقي، ولما طال أمد الحرب لم يكن أمامي خيار إلا الارتباط، ولو برجل متزوج وأب لأطفال".
وتزيد ردًا على سؤالنا عن "كيف قبلت الزواج في الحرب؟": "كنت بحاجة إلى معيل، وهنا اكتملت الحلقة.. أطفاله يحتاجون أمًا، وأنا أحتاج زوجًا وأبًا لطفلتي. كان القرار صعبًا لكن ظروفي كانت أصعب".
وأضافت بجرأة: "بصراحة وافقت لأني كنت متيقنة أن نازحي الجنوب لن يعودوا للشمال أبدًا، لكن الأمر لم يأت كما حسبتُها"، مردفةً بحرقة: "كنت كلما سمعت عن تقدم في مفاوضات الهدنة، أشعر بأن غولًا يقترب مني ومن حياتي.. بل كابوسًا"، على حد تعبيرها.
وفي ردها على سؤال ما إذا كانت تشجع هذا النوع من الزواج تجيب: "أنا بالمطلق لا أشجع الزواج برجل متزوج، لأن نسبة الفشل والطلاق كبيرة جدًا في هذا النوع من الزيجات".
"حالات فردية"
وتؤكد الأخصائية الاجتماعية والنفسية نيبال حلس بدورها، أن القضية لا تشكل ظاهرة، "بل هي حالات فردية ولا يوجد تشجيع مجتمعي لها".
وترجع حلس، هذا السلوك، الذي برز لدى بعض الحالات وسط الإبادة، بأنه نتيجة ثقافة المجتمع الذي نشأ به الزوج، والأفكار التي تراكمت في عقله، حول ماهية الزواج، والعلاقة بالشريك، والقوامة، والاحتياجات التي تضع المرأة في منزلة المعيل، على عكس ما هي عليه فطرةً وشرعًا، متابعةً: "هناك من يمكن التبرير له، بالذات من فقد زوجته شهيدة، وبقي له أطفال بحاجة لرعاية، ومن تركته زوجته ونزحت بدون أطفالها بعدما قرر هو البقاء شمالًا، وغير ذلك من الحالات".
وينصح خبراء علم النفس، أي سيدة تزوج عليها زوجها عمومًا باتباع آلية "لا تجعلها الخاسرة الوحيدة"، وأولها "الثبات الانفعالي"، وعدم الانسياق وراء مشاعر الغضب حتى تتمكن من استيعاب الصدمة بسهولة، وترتيب أفكارها القادمة، فتقلل الخسائر المتوقعة.
وينصح الخبراء، بعدم العجالة في طلب الطلاق، بل الالتفات لتطوير النفس، ومزاولة الأنشطة المحببة والزيارات العائلية، والتعلم لأي مهارات جديدة، حرفية أو أكاديمية، حتى إذا ما وصل الحال لنقطة مسدودة، يمكن للسيدة الاعتماد على نفسها، والاستقلال ماديًا، "وبالتالي تصبح آثار الانفصال عليها أسهل بكثير".
ووفقًا لخبراء علم النفس، فمن الضروري التقرب من الأولاد في هذه الفترة الصعبة، وتعويضهم عن غياب الأب، "فهذا يخلص من الطاقة السلبية، ويمد بالطاقة الإيجابية"، موصين بالصبر لعامٍ على الأقل، وقياس ما إذا كان هناك إمكانية للتأقلم مع الوضع الجديد أو لا، "وهنا يكون اتخاذ القرار النهائي، مبنيًا على دراسةٍ وتأنٍ وحسابات لا تخيب".