عن أول رمضان.. "وماما في الجنة"!

اول رمضان.jpg
اول رمضان.jpg

غزة/ البوابة 24- رشا أبو جلال:

جلس يحيى خضور (13 عامًا) أمام باب خيمته في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، يراقب الأطفال وهم يركضون بفوانيسهم المصنوعة من الكرتون، التي صنعتها لهم أمهاتهم لاستقبال شهر رمضان الكريم.

كان يحيى يستمع إلى صيحات هؤلاء الأطفال ويبتسم، "وكأن الحرب لم تسرق منهم شيئًا" يصف. بالنسبة له هو، كان رمضان هذا العام مختلفًا، "وقد خطفت مني الحرب كل شي" يقول.. "غدوت بلا بيت، بلا زينة، وبلا أمي".

استشهدت السيدة زينت خضور في قصفٍ إسرائيلي استهدف مارّة في شارع الثورة بمدينة غزة، في نوفمبر 2024م، وتركته وحيدًا يترقب الهلال وحده. أمام الخيمة، يحمل الهواء لأنفه رائحة الحطب المحترق، الممزوح برائحة المطبوخات في الخيام المجاورة، "لكن شيئًا من هذه الروائح لا يشبه رائحة مطبخ أمي. أمي التي كانت تطعمنا الحب من قلبها رغم كل الظروف في رمضان".

تذكرها خلال رمضان الماضي، وهي تقف أمام موقد الحطب، وجهها متورد من البخار، تُحرك شوربة العدس بملعقة خشبية، بينما "المقلوبة" تنضج على النار.

قال يحيى بصوت خافت كأنه يحدث نفسه: "أمي كانت تصنع بهجة رمضان، ولا يمكن أن أتخيل هذا الشهر دونها".

يضيف الفتى لموقع "البوابة 24": "خلال أشهر رمضان التي سبقت الحرب، كنت معتادًا على مساعدتها، أغسل لها الخضار وأرتب سفرة الطعام.. كنت أفرح كثيرًا حين كانت تقلب الطعام على الموقد، كانت تطبخ لوحات فنية، وكنت أنتظر بشغف أن تقدم لي أول قطعة من القطايف المغموس بالقطر".

يتابع والدموع تنساب على وجنتيه دونما توقف: "كل ذلك أصبح من الماضي، لقد خطفت الحرب أمي وأبقت لي الذكريات".

في غزة، حيث كانت رائحة مأكولات رمضان الشهية تفوح في الأزقّة، وأضواء الفوانيس تزيّن النوافذ، وحكايات الأمهات تُروى حول موائد الإفطار. حلّ رمضان هذا العام بوجهٍ باهت، حزين، مثقل برائحة الفقد.

لم يعد الأطفال يهرعون إلى أحضان أمهاتهم لحظة الأذان، لم تعد الأيدي الدافئة تمسح على رؤوسهم، ولم تعد الموائد عامرة إلا بالذكريات.

في الخيام التي نُصبت على عجل، يجلس الأطفال بعيون تائهة، يحملون تمراتهم، لكنهم لا يجدون من يضعها في أفواههم كما كانت تفعل أمهاتهم. رمضان الذي كان شهر الفرح واللمة، صار مرادفًا للحزن والوحدة، بعد أن سرقت الحرب أعزّ ما يملكون، أمهاتهم، وبيوتهم، وزينة رمضان التي لم يعد لها مكان سوى في قلوبهم الكسيرة.

ووفقًا لتصريحات زاهر الوحيدي، مدير وحدة المعلومات بوزارة الصحة في غزة، حتى 23 يناير 2025م، فقد حوالي 36,569 طفلًا أحد والديهم، بينما فقد 1,918 طفلًا كلا الوالدين، مما يرفع إجمالي عدد الأطفال الأيتام إلى أكثر من 38,000 طفل.

طقوس بلا روح

كانت سارة المدهون (14 عامًا) تجلس في كراج سيارة والدها، الذي أصبح منزلها الجديد في حي النصر بمدينة غزة، تحتضن ركبتيها بين ذراعيها، وتحدق في فانوس رمضان الذي اشتراه لها والدها، ووضعه أمامها.

كانت تحاول أن تستعيد إحساس رمضان كما كان قبل أن تأخذ الحرب أمها السيدة عبير المدهون في قصف جوي استهدف منزلهم في أكتوبر 2024. لقد أصبح البيت كومة من الركام، وأصبح رمضان طقسًا بلا روح.

همست سارة بصوت مرتعش لـ"البوابة 24" وهي تنظر إلى الفانوس: "أمي كانت تجمع أطفال الحارة عندنا في هذا الكراج لنلعب بالفوانيس. كانت هي من يصنع أجواء رمضان".

نظرت إلى سقف الكراج الباهت. لم يكن هناك زينة رمضان التي كانت أمها تصنعها من الأوراق الملونة، لم يكن هناك الفوانيس الصغيرة التي كانت تضعها على النافذة، فقد اختفت النافذة. بل اختفى البيت كله.

تضيف سارة: "أمي كانت تصنع رمضان بنفسها، كان وجودها يجعل كل شيء جميلًا.. كيف أعيش رمضان بدونها، أخبروني؟".

رمضان بلا أمي

إلى الشمال، حيث منطقة أبو الأمين في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، كانت الطفلة ليان البربري (12 عامًا) تجلس برفقه أشقائها الذين يصغرونها سنًا في متنزه شعبي، حيث أصبحت ليان أمًا جديدة لهم.

تستذكر ليان شهر رمضان المبارك قبل الحرب، وتتخيل كيف كانت تلهو مع أشقائها بفوانيسهم المضيئة مع اقتراب شهر رمضان، أما اليوم، لا فرحة تملأ قلبها، ولا شوق يغمرها كما في الأعوام الماضية، بعد استشهاد والدتها وشقيقها الرضيع مطلع ديسمبر 2024م، حيث بدأ هجوم بري إسرائيلي على مخيم جباليا شمالي قطاع غزة.

تقول ليان لـ"البوابة 24": "قبل الحرب، كانت أمي أول من يبشرني بثبوت رمضان. كانت تحتضني بحب وتقول: "جاء شهر الخير يا ليان، سنذهب معًا لشراء الزينة، ونحضر الحلوى لخالاتك".

كانت تضحك بسعادة كلما أمسكت يدها الصغيرة في السوق المزدحم، تتركها تختار الفوانيس، وتشتري لها سوارًا صغيرًا بلون الهلال. كانت ليان تشعر وكأن العالم بأسره يحتفل معها، فكل شيء كان مشرقًا بوجود أمها.

اليوم، لا سوق، لا زينة، لا يد دافئة تمسك يدها الصغيرة. لم تعد هناك أم تأخذها لزيارة خالاتها، لم تعد هناك مائدة تنتظرها بوجبات أمها اللذيذة.

مسحت دمعة انسابت على خدها، ثم همست: "رمضان كان أمي... والآن، ماذا تبقى من رمضان؟".

صدمة نفسية

فقدان الأم المفاجىء يترك صدمة نفسية عميقة عند الأطفال، خاصة في المناسبات التي كانت تجمعهم بها، مثل شهر رمضان، حيث تبرز الذكريات المؤلمة وتزيد من إحساسهم بالفقد -وفقًا للباحث النفسي والاجتماعي عادل عوض الله.

وأوضح لـ"البوابة 24"، أن "الأم هي الرابط العاطفي الأهم في حياة الطفل، وفقدانها يترك فراغًا لا يُعوّض، خصوصًا في الأوقات التي كانت تمثل دفئا أسريًا، مثل تحضير مائدة الإفطار، وتزيين المنزل، والذهاب إلى السوق معًا".

وأضاف: "رمضان يعيد إلى الأطفال الأيتام مشاهد وذكريات محفورة في ذاكرتهم، مما يجعلهم أكثر عرضة للحزن والاكتئاب، وقد يؤدي ذلك إلى الانطواء أو فقدان الرغبة في المشاركة في طقوس الشهر الفضيل".

وللتخفيف من هذا الأثر النفسي، شدد عوض الله على أهمية دور الآباء أو الأقرباء في دعم الأطفال نفسيًا وعاطفيًا، قائلًا: "يجب على الأب أو الأقارب محاولة تعويض جزء من هذا الفراغ عبر إشراك الأطفال في التحضيرات الرمضانية، وخلق طقوس جديدة تمنحهم بعض السعادة، مع إعطائهم مساحة للتعبير عن مشاعرهم، والاستماع إلى ذكرياتهم دون محاولة محوها أو تجاهلها".

وأكد أن "الأمان العاطفي للأطفال لا يكون بإلغاء الذكريات، بل بمساعدتهم على التأقلم معها، وتحويل الحزن إلى طاقة إيجابية عبر مشاركة الجماعة، والاهتمام بهم بشكل خاص في هذه الفترة الحساسة".

البوابة 24