غزة/ البوابة 24- ريم سويسي:
ترتدي "رؤى" الملابس الخاصة بالصلاة، وتجلس أمام باب خيمتها. تحت الشمس بدا كل شيءٍ أوضح، "كانت هذه المرة الأولى التي تتيح لي المقتلة فيها التدقيق في كعب قدمي" تقول.
"بدت كأقدام العمال في حفر المناجم وشق الجبال" تصفها، بعد انقطاعٍ دام عامًا ونصف عن رفاهية "العناية بالجسد"، وتكمل: "صدمني المنظر، كانت يابسة، وخشنة، ولونها رمادي! مليئة بالتشققات. هذه الأقدام لا توحي أنها لشابة في العشرينات من العمر أبدًا".
كانت رؤى قبل اندلاع الإبادة في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، طالبةً جامعية، تدرس في كلية التربية، وكانت تعشق كل ما يتعلق بالموضة، من ملابس ومساحيق تجميل ومستحضرات للعناية بالبشرة. "كنتُ أزور صالون السيدات كل شهر من باب تغيير النفسية. تخيلوا أنني كنتُ أدفع لقاء ترتيب أظافري مبلغًا وقدره" تحكي بحرقة رغم أنها ابتسمت، بينما تنفض ذكرياتها تلك وتعود إلى عالمها الجديد، حيث تعيش في خيمة، على ركام بيتها المهدوم في مدينة بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة.
مثلها سيدات كثُر، استيقظن بعد هدوء النار على صوت أنوثتهن تصرخ. "كيف كنا؟ وأين نحن الآن".
"هباب الحطب"
في خيمةٍ ليست بعيدةً، تتأمل يُسرى (وتكنى بأم عبيدة) يديها الخشنتين، اللتين أنهكهما حمل جالونات الماء الثقيلة وطعام التكية، وتسخين الماء على الحطب، وغسل المواعين بالمنظفات المحلية، وغير ذلك من الظروف التي أثرت على كافة نساء غزة، بعد أن افترشن الخيمة والتحفن السماء.
تتحدث عن الماضي القريب (ما قبل السابع من أكتوبر)، وقد كانت تنفق جزءًا من مرتبها على مواد التجميل والزينة "لدرجة أنني كنت أتعرض للانتقادات من قبل زوجي وأهله".
وتقول ضاحكةً: "كانت إكسسواراتي وخواتمي تتناثر حتى في المطبخ، وكان عندي خزانة خاصة بماسكات الشعر ومرطبات الجسم والوجه، والماكياج وطلاء الأظافر بألوانه كلها".
بعد استقرارها اليوم في خيمةٍ داخل مواصي خانيونس، تقارن أم عبيدة حالها بما مضى، وتخبرنا: "صارت يداي تشبهان أيدي الرجال. قصصتُ أظافري التي اسودّت من هباب الحطب، واحترقت بشرتي أمام دخانه. كل الكريمات لن تجدي نفعًا بعد هذا الذي نعيشه، لقد رسمت التجاعيد خطوطها على وجوهنا وانتهى الأمر".
تحاول السيدة (وعمرها 32 عامًا) لملمة الحديث، وإنهائه، "فقد ضرب على وترٍ حساس"، لا سيما وأنها بدأت تتلقى تعليقات من زوجها الذي لم يعتد أبدًا على رؤيتها على هذه الشاكلة، حسب قولها، "الذي لم يرَ الحقيقة كاملة حتى اللحظة كونه لم يعش معنا الإبادة، وكان في ألمانيا عندما اندلعت الإبادة" تكمل.
تعبث بأظافرها المقصوصة إلى حدود الإصبع، وتحاول إزالة بقايا (السكن) منها، بعد أن لفت الحديث انتباهها، وتختم: "أعيش أسوأ أيام عمري. نفسيتي في الحضيض، وقلبي موجوع بشكل لا يمكن وصفه. لقد فقدتُ أنوثتي حقًا".
جعفر!
ميساء، كانت ورطتها أكبر! نعم، فزوجها يقيم معها في الخيمة، وهي من قبل الإبادة تشتكي من تعامله السيء معها، "ولسانه الطويل".
تقول: "آخر مرةٍ تشاجرنا فيها قال لي بس يا جعفر! ملمحًا إلى شعر وجهي الزائد الذي لم أعد أزيله بانتظام منذ أن صارت أولوياتنا تقصم الظهر".
وتضيف: "لا أعذره، فما أنا فيه ليس من صنعي، ولا من إهمالي. أي أنوثة التي يتمنى أن يراها في خيمة، وأنا تحت أعين الناس وسمعهم؟ أي أنوثة وأنا طوال النهار أمام الحطب أطبخ وأسخن الماء للغسيل والاستحمام؟ أي أنوثة، وأنا في صقيع الشتاء جفّ قلبي وليس جلدي وحسب؟".
وتزيد: "مزاحه سخيف جدًا، يقول إنه يراني أحد أصدقائه كوني أرتدي طوال النهار ملابس الصلاة، ويقول: هذا الذي سيجلب لك ضرة إن شاء الله".
في لقاءٍ منفصل، وسؤالٍ عام، وجهناه لزوج ميساء، قال في وصفه لطبيعة الحياة الزوجية في ظل الخيمة: "لم أعد أشعر أنني أعيش مع زوجة. رائحتها على الدوام رائحة حطب، ورأسها مغطى بالحجاب طوال النهار (..) لا أتذمر لكن واقع الحياة هذا غير منصف أبدًا".
بالعودة إلى ميساء، فإنها تدافع عن نفسها بالقول: "الذنب ليس ذنبي بل ذنب الحرب. أنا مضطرة للتأقلم مع الواقع الجديد، كيف أضع مساحيق تجميل وأنا أرتدي ثوب الصلاة! وكيف أخرج بها من باب الخيمة التي تتلاصق وعشرات الخيام حولها؟".
وتختم: "الخيمة قتلت أنوثتي، وعلى زوجي أن يراعي هذا الحال، فهو أيضاً قد تأثر اهتمامه بذاته عما كان في السابق".
"علاقة على خجل"
وتحكي العروس ربا (22 عامًا)، لـ"البوابة 24" كيف تزوجت في الخيمة، بينما لم تكن تعلم أن الحياة في داخلها ستكون ضيقةً إلى هذا الحد.
"أنا لا أمارس حياتي الزوجية كما يجب. لا ألبس ما تلبسه كل عروس، ولا أضع الماكياج الصارخ، ولا أرش العطر، خشية أن تصل رائحته خيمة الجيران" تقول بحسرة.
وتكمل: "ليست فقط الخصوصية هي ما يؤرقني هنا. كيف ألبس فستانًا ملونًا أو أضع مانكير، أو روج، أمام موقد الحطب؟ حتى علاقتنا الحميمة نخطفها خطفًا عن عيون المتربصين بخيمتنا! وعلى استحياء كأننا نسرق".
هنا يتدخل زوجها رامز (35 سنة): "لم أشعر بفرحة أن أكون عريسًا. لا طقوس زوجية يمكن القيام بها داخل الخيمة للأسف"، مضيفًا: "أنا لا أتذمر، ولا أطلب من زوجتي حتى أن تتزين لأجلي في ظل هذه الظروف، فالخيمة ورمالها كافيان لتخريب أي فرحة أو تدمير أي محاولة للتأنّق".
وتعلق نيبال حلس، الأخصائية النفسية والاجتماعية، بقولها: "لا تقتل الخيمة أنوثة المرأة، ولكنها تدفنها قهرًا تحت ظروف أكبر من طاقة جسدها"، مردفةً: "نساؤنا تحاملن على قهرهن ووجعهن كثيرًا، وتحدين الظروف التي فُرضت عليهن".
تضيف: "نساؤنا يختلفن عن نساء العالم كله بصبرهن. منذ النكبة، وما تلاها من ثورات وانتفاضات وويلات. لكن هذه الحرب كانت مختلفة حقيقةً، طول أمدها كسر شيئًا لا يمكن إصلاحه في قلوب النساء".
وتطرقت إلى أن كثيرات من النساء، اضطررن لقص شعورهن في الخيام، توفيرًا للمال، والشامبو، وأيضًا خشية انتقال أمراض فروة الرأس بالعدوى، كما أنهن تخلين عن الزينة لقلة الوقت والجهد الكبير الذي يبذلنه في الحياة، بين غسيل يدوي، وطبخ على الحطب، والمكوث لأيام بدون استحمام نتيجة قلة الماء، وزادت: "ناهيكم عن اختيار معظم نساء غزة لملابس الصلاة كزي ساتر في الخيام، وهذا وحده يلغي تمامًا فكرة التزين".
تشير إلى أنها التقت مرة امرأة قالت لها: "أنا لا أستطيع تمشيط شعري، ولا أهتم فيه. تمضي أيام دون أن أخلع ثوب الصلاة، فقصصته كي أحميه، ولأن لا وقت لدي ولا إمكانيات لتسريحه والاهتمام به".
وتكمل: "بعض النساء الأخريات قلن لي: شحب وجهي وظهرت عليه التجاعيد وأنا في عمر الثلاثين"، أما فيما يتعلق بتأثير ذلك على العلاقة بين الزوج وزوجته، فتخبرنا حلس: "أدى الأمر في بعض الحالات لنشوب خلافات بين الزوج والزوجة نتيجة مطالبة الأخير للزوجة بالاهتمام بنفسها وشكلها أمامه، هي لا تستطيع التغاضي عن كل ما يحيط بها من ظروف وفعل ذلك، وهو يتغاضى عن كل الظروف ويطالب بذلك! مما انعكس بشكل سلبي على العلاقة الزوجية بينهما وبالتالي انعكس على الأبناء، الذين أصبحوا أكثر شراسة خلال الحرب".