الحرب وكشف عورات مجتمعنا الفلسطيني

" الحرب وكشف عورات مجتمعنا الفلسطيني": بقلم: أ. د. خالد  محمد صافي

هذه الحرب لم تشكل تعرية للعالم بدوله ومنظماته الدولية والحقوقية، وحتى مواثيقه في القانون الدولي الإنساني، وتعرية جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي بل شملت تعرية للشعب الفلسطيني نفسه. حيث عرته من قياداته ونخبه السياسية والاقتصادية والثقافية. وعرته من فصائلة الوطنية والإسلامية. ولكن ما نود الكتابة عنه هنا هو أنها عرت الشعب من تضخم الأنا بأننا شعب استثنائي على صعيد الاهتمام بالتعليم. وأننا من أكثر الشعوب العربية والإسلامية في نسبة التعليم بمراحله المختلفة، وفي قلة نسبة الأمية. وأننا من أسسنا وقدنا المؤسسات التعليمية وغيرها في دول عربية مثل دول الخليج العربي. فهذه الحرب لم تعري الجبهة الداخلية فيما يتعلق بفقدان الأمن، وانتشار اللصوص وقطاع الطرق بل الأهم من ذلك أنها عرت منظومة القيم الدينية والأخلاقية في المجتمع. فرغم مئات المساجد التي اقتربت من الألف، أقل قليلا أو أكثر، ورغم مراكز تحفيظ القرآن، ورغم المؤسسات التعليمية بجميع مراحلها، بل وحتى كثرة مؤسسات التعليم العالي، وكثرة مؤسسات المجتمع المدني إلا أن ذلك لم يصن أو يحمي العقل الجمعي الفلسطيني تجاه جبهته الداخلية. وسادت عقلية الخلاص الفردي لدى الجميع من نخب تجارية وفصائلية وتعليمية وثقافية. فكيف يمكن لشعب تحت الاحتلال، ويباهي بنسبة التعليم لديه أن يجهز على ما تحتويه مباني جامعاته التي لحقها الدمار من أثاث وأجهزة كمبيوتر حتى سرقة الأبواب والنوافذ ... الخ. وهذا ما لحق أيضا بالمدارس جميعا وكذلك المستشفيات. هذه المؤسسات التعليمية والصحية التي شكلت مأوى وملاذ للنازحين خلال الحرب منذ أيامها الأولى. هل هذا رد الجميل لهذه المؤسسات على فتح أبوابها مشرعة أمام النازحين. وهل هذه قيم المجتمع الدينية والأخلاقية أن نساهم في الاجهاز على المدارس والمستشفيات والجامعات التي أوتنا خلال هذه الحرب الطاحنة. 
لقد شاهدت بأم عيني قوافل النازحين العائدين من الجنوب للشمال، وكيف أن الكثير من الشاحنات والتكاتك، وعربات الحمير والبغال والأحصنة وهي تحمل كراسي وطاولات وبنوك خشبية وحديدية. وليس الأمر مقصور على شمال أو جنوب بل الكل في تحمل المسؤولية سواء تجاه كشف عورات المجتمع. 
كيف يمكن التخيل أن شعب يقدس التعليم، ويعتبر نفسه شعب مشروع وطني وقضية تحررية عادلة أن ينقض على كل شيء في المؤسسات التعليمية والصحية ويحوله إلى دمار وخراب حتى صنابير المياه، وخزانات المياه، وألواح الطاقة ... الخ. كيف يمكن لشعب يقدس التعليم أن ينهب المكتبات، ويحرق الكتب، ويعمل بها اكواز لبيع الفلافل والمكسرات والحلويات من عوامة وكرابيح حلب ... الخ. 
     سمعت أن عائلات من النازحين نزحوا إلى مدرسة فوجدوا أن كل صفوفها قد شغلت من قبل عائلات أخرى، ولم يتبق غير مختبر الحاسوب، فرفضت مديرة المدرسة أن تمنحه لهم تحت مبرر أنه يحتوي أجهزة حاسوب، ولذلك هو ليس فصل اعتيادي. وطلبت أن يندمجوا مع العائلات الأخرى في الصفوف. ولكن أصروا على الدخول، واتهموا الناظرة أنها بلا وطنية ولا دين ولا أخلاق، وأنهم نازحين ولهم الحق في الايواء. وتحت صراخهم وتهديدهم وشتمهم لها فتحت لهم مختبر الحاسوب مشترطة عليهم وضع الأجهزة في ركن، والحفاظ عليها. ولكن للأسف فإن مدعي الوطنية والأخلاق، وتقوى الدين قاموا بنهب كل الأجهزة، وعرضوها للبيع في نزوحهم وترحالهم. 
    لقد كثر الحديث خلال الحرب عن جشع التجار، وكسبهم غير المشروع من دماء شعبهم، وتلاعبهم بالأسعار، ووصولها لأرقام فلكية. وتم الحديث عن فساد مديري مؤسسات إغاثة وسرقة المساعدات وبيعها في السوق السوداء للحرب، وعن تواطىء وفساد موظفين، وقيادات. ولم يتوقف لغط الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي عن ذكر العديد من أثرياء الحرب، وتجار الدم. ولكن لم يتم الحديث كثيرا عن تفكك المنظومة الأخلاقية لجميع فئات المجتمع إلا من رحم ربي وهم قلة فيما يتعلق بنهب مراكز الايواء من مؤسسات تعليمية وصحية. بل لم يتم الحديث كثيرا عن أسواق الحرامية التي انتشرت في المدن. وكيف أن هذه الأسواق التي تحتوي على الكثير مما نهب من المؤسسات والمنازل من عدد حديدية إلى بطاريات إلى أواني منزلية ومن بينها جرار غاز. وكان البيع والشراء فيها يتم تحت سمع وبصر المسؤولين.
   كما كثر اللغط والحديث أيضا عن اللصوص والحرامية الذين سرقوا منازل جيرانهم وأقربائهم ومعارفهم أثناء النزوح، بحيث لم يسلم سوى القليل من المنازل من السرقة في الشمال أو الجنوب. وعصابات السرقة من عائلات عدة. فأين قيم وأخلاق الحفاظ على الجيرة. وأين حديث الرسول عن الوصاية على الجار. وأين الحكم والأمثال عن الجار القريب خير من الأخ البعيد. بل أن الكثير من الشهداء قد فقدوا أرواحم عندما ذهبوا لتفقد منازلهم خشية السرقة من اللصوص والحرامية. 
    لابد من وقفة تقييمية على صعيد الذات الفردية والذات الجماعية لما حدث، وكيف ولماذا انهارت المنظومة القيمية والأخلاقية وحتى الدينية، وكيف كشفت الحرب هشاشتها وكشفت عورتها. أين الخلل؟ وهل كنا نبني مؤسسات ومساجد ولم نبن انسان. وأن بناء الإنسان هو الأساس. هل يمكن الحديث عن إمكانية حدوث صحوة ضمير فيتم ارجاع اثاث المدارس وما سرق منها من كتب كمبيوترات مع بدء نفخ الروح في العملية التعليمية. هل نحن بحاجة لإعادة بناء القيم والأخلاق، وأن يكون الدين ليس مجرد طقوس وشعائر وعبادات بل فكر ووعي وسلوك يمارس. هناك ألف هل، وألف كيف، وألف لماذا.

غزة
14/3/2025

البوابة 24