غزة/ رشا أبو جلال- البوابة 24:
وسط أكوام الخيام البيضاء المتراصة في مخيم إيواء للنازحين غربي مدينة غزة، امتزجت أصوات الأطفال الباكين مع هدير الطائرات في السماء.
وسط هذا المشهد كانت سهاد حماد (23 عامًا) تجلس أمام خيمتها، تحتضن طفلها أحمد (عامين)، الذي يبكي من الجوع والبرد. تغالب دموعها بصمت، تحاول تهدئته رغم أنها بالكاد تستطيع تهدئة نفسها.
فقدت سهاد زوجها أحمد حماد (29 عامًا) في غارة إسرائيلية استهدفت منزلهما في نوفمبر 2023. في تلك اللحظة كانت سهاد في زيارة لوالدتها. عادت لتجد بيتها ركامًا وزوجها تحت الأنقاض، تاركًا إياها أرملة وأمًا لطفل لم يتعلم بعد نطق كلمة "بابا".
لا مأوى ولا معيل
تتحدث سهاد بصوت يغلبه الحزن لـ"البوابة 24": "أحمد كان كل شيء بالنسبة لي. كان سندي وصديقي قبل أن يكون زوجي. فقدته فجأة، وبقيت وحدي أواجه هذا العالم. لا بيت ولا مأوى ولا معيل. عائلتي بالكاد تعتني بإخوتي الصغار، وأنا صرت أشعر بأنني عبء عليهم".
تعيش سهاد اليوم وسط أشكال عديدة من المعاناة والتحديات، وتحكي: "أستيقظ كل صباح وأبحث عن ماء للشرب وغسل الملابس. أحيانًا أخرج لأبحث عن حطب للطهي، لكنني أعود خائبة. ابني يبكي من الجوع، وأنا لا أملك ما أطعمُه به. الخبز صرنا نعده من دقيق المساعدات، والطعام كله صار إما معلبات أو عدس وخبيزة".
ومنذ مطلع آذار/ مارس الجاري، قررت دولة الاحتلال الإسرائيلي إغلاق معبر كرم أبو سالم معلنة بذلك وقفًا تامًا لإدخال المساعدات والبضائع لسكان القطاع.
لا تقتصر معاناة سهاد على الجوع والبرد، بل تتحدث عن ثقل نظرة المجتمع لها كأرملة شابة: "الناس لا ترحم. بعضهم يقولون لي: أنتِ صغيرة، ستتزوجين قريبًا، وآخرون يتهامسون عني وكأنني أخطأت بفقد زوجي. حتى أهلي صاروا يتدخلون في كل خطوة لي. لا أستطيع الخروج إلا بإذنهم، وأحيانًا يرفضون، يقولون: إنتي أرملة، مكانك في الخيمة مع ابنك".
تحاول سهاد البحث عن طريقة لتوفير احتياجاتها. فكرت في العمل لكنها تخشى أن يرفض أهلها ذلك، وتكمل: "أريد أن أعمل، حتى لو في خياطة الملابس أو تنظيف البيوت، لكن أهلي يرفضون. يقولون إن الأرملة يجب أن تبقى في بيت أهلها، لا تخرج ولا تخالط الناس. كيف أعيش إذن؟ أريد أن أربي ابني بكرامة".
رغم كل شيء، تحاول سهاد التمسك بالأمل، وتقول بحزم: "أحمد كان يحلم أن نؤمّن مستقبل ابننا. لن أسمح للجوع والظروف أن تحطم أحلامنا. سأبحث عن أي طريقة لأعيش بكرامة، ولن أترك ابني يكبر في ذل".
في نهاية الحديث، سهاد تنظر إلى ابنها وهو يغفو أخيرًا على حجرها وتتمتم: "يكفيني أنه يشبه أبيه، هذا ما يواسيني".
وتزداد معاناة زوجات الشهداء الفلسطينيين في غزة خلال شهر رمضان، إذ يتحملن عبء الأمومة والأبوة معًا، في مواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية خانقة فاقمها الحصار المستمر. ومع تجاوز عدد الأرامل 13,900 امرأة منذ بدء الحرب، تتضاعف الأعباء عليهن، خاصة مع غياب المعيل وتحملهن المسؤولية الكاملة عن أطفالهن، الذين باتوا يفتقدون الأب والسند.
لم يتبق سوى الذكريات
في حي الشجاعية، إحدى مناطق غزة التي شهدت -وما زالت- أكثر الغارات عنفًا، فقدت بسمة شحيبر (25 عامًا) زوجها الذي كان يعمل في مجال الحدادة في غارة إسرائيلية خلال كانون الأول/ ديسمبر 2024م.
كانت بسمة في البداية، تغمرها الصدمة وتدور في حلقة مفرغة من الحزن والفقد. لكن مع مرور الوقت، وجدت نفسها مضطرة للوقوف مجددًا؛ لتلبية احتياجات أطفالها الثلاثة الذين لا يتجاوز أكبرهم السادسة من العمر. في غياب الدعم الكافي، خاصة في ظل الحصار المستمر، قررت أن تكون المسؤولة عن كل شيء، من الطعام والشراب إلى التعليم والرعاية الصحية.
تروي بسمة لـ"البوابة 24": "رمضان هذا العام كان مختلفًا تمامًا، فقد اعتدت أن أعيش أجواءَه مع زوجي الذي كان يحب طقوسه جدًا. كان يساعدني أحيانًا في إعداد طعام الإفطار. كان يحب أن يعد السلطة بنفسه. اليوم لم يتبق سوى الذكريات".
وتضيف: "كان يجب عليّ أن أكون قوية، خاصة أمام أولادي. لم أعد أستطيع التفرغ للحزن، عليّ أن أوفر لهم الطعام، رغم صعوبة الوضع. لا يوجد غاز للطهي، لذا غالبًا ما ألجأ للطهي على الحطب".
ومع صعوبة الحياة، كان كل يوم بمثابة تحدٍ جديد، لكن بسمة تقول وهي تبتسم بحزن: "رغم كل شيء، أريد أن أرى أولادي ينجحون، حتى لو كان ذلك يعني أنني سأحارب وحدي. أتمنى أن أكون قادرة على تلبية احتياجاتهم وتوفير حياة أفضل لهم، على الرغم من الظروف القاسية".
ورغم كل التحديات، لم تتوقف زوجات الشهداء عن العطاء. بعضهن أطلقن مشاريع صغيرة لتأمين لقمة العيش، وأخريات انخرطن في العمل التطوعي لدعم النساء والأطفال المتضررين، في تجسيد عملي لقوة المرأة الفلسطينية وقدرتها على مواجهة الصعاب.
أرملة الصمود
داخل غرفة معتمة ورطبة هي آخر جزء صالح للسكن من منزلها المهدم جزئيًا في حي الزيتون، شرقي مدينة غزة، كانت رُبى الدّحدوح (32 عامًا)، تراقب أطفالها الخمسة وهم يتقاسمون صحن حمص أعدته.
منذ أن فقدت زوجها محمد في غارة إسرائيلية في شباط/ فبراير 2024م، انقلبت حياتها رأسًا على عقب. لم يكن الفقد وحده ما أثقل قلبها، بل المسؤولية الثقيلة التي وجدت نفسها فجأة تحملها وحدها، دون معيل ولا مأوى يحميها وأطفالها من قسوة الشتاء وحرارة الشمس.
تقول رُبى، وهي تحاول كتم دموعها لـ"البوابة 24": "استشهد محمد وهو يحاول جلب الخبز لنا.. كنت أنتظره على أمل أن يعود بشيء نأكله، لكنه لم يعد أبدًا. لم أكن أتخيل أنني سأعيش يومًا بدونه، لكن الألم لم يكن لي وحدي، أطفالي أصبحوا بلا أب، بلا سند، وأنا صرت الأم والأب معًا".
وتعتاش رُبى مع أطفالها بشكل رئيس على المساعدات، ولكن منذ إغلاق المعبر لم يصلها أي مساعدات الأمر الذي أجبرها على تقليص حصص الطعام لأطفالها.
ورغم بذلها جهدًا كبيرًا في إدارة شؤون أسرتها إلا أنها بدأت تسمع مؤخرًا همسات الجيران ونظرات الشفقة، وأحيانًا التوبيخ غير المباشر من عائلتها.
وقالت: "أصبحت عالة على أهلي بعد فقدان زوجي -أو هكذا يشعرون- ولم يتقبلوا أن أخرج لأعمل، كانوا يقولون إن المرأة مكانها في البيت، لكنني لم أعد أتحمل أن أرى أطفالي ينامون جوعى. كنت أختنق من كلامهم، لكن جوع أولادي كان أقسى من كلامهم".
رغم كل القيود، قررت رُبى أن تكسر الواقع المرير. باعت ما تبقى لديها من ذهب -خاتم زواجها الذي احتفظت به ذكرى لزوجها الراحل- واشترت بالمال بضاعة بسيطة، وافتتحت بسطة صغيرة أمام منزلها.
"بدأت بأشياء بسيطة: بسكويت، وشاي، وسكر، ومعلبات. كنت أخاف من الفشل، لكنني كنت أخاف أكثر من أن يظل أطفالي بلا طعام" تضيف.
وبالفعل، تحولت بسطة رُبى الصغيرة إلى وجهة لأهالي المنطقة، خاصة النساء اللواتي وجدن عندها مكانًا آمنًا لشراء حاجياتهن دون الحاجة للخروج للأسواق البعيدة. بدأت تربح القليل، لكنها كانت ترى في كل شيكل تكسبه انتصارًا على الفقر والحصار.
"كل ما كنت أربح شيكل، كنت أشعر أنني انتصرت على الحرب، على الاحتلال، على كل من قال لي إنني لن أستطيع" تزيد.
الحاجة للدعم المجتمعي
من ناحيته، يقول الخبير النفسي والاجتماعي د. درداح الشاعر لـ"البوابة 24": "الأرامل الشابات في غزة يعشن معاناة مركبة، فهن لا يفقدن فقط الزوج كشريك حياة، بل يفقدن معه الشعور بالأمان والاستقرار والدعم النفسي والاجتماعي. يجدن أنفسهن فجأة أمام مسؤوليات ضخمة، ما بين تربية الأطفال، وتوفير لقمة العيش، وإدارة الأسرة بمفردهن، في وقت يكنّ فيه أنفسهن بحاجة لمن يساندهن نفسيًا وعاطفيًا".
وأوضح الشاعر أن المشكلة تتفاقم عندما يواجهن مجتمعًا ينظر إليهن أحيانًا بعين الشفقة، وأحيانًا أخرى بعين الانتقاد، "في كثير من الأحيان، تصبح الأرملة الشابة عرضة للتحكم من عائلتها أو عائلة زوجها، سواءً بفرض قيود على حركتها أو اتخاذ قرارات تخص حياتها ومستقبلها دون استشارتها، وكأنها فقدت حقها في تقرير مصيرها".
وأكد الشاعر على أن العبء النفسي الذي تتحمله الأرملة لا يقل قسوة عن العبء المادي، مردفًا: "هذه المرأة لا تحزن فقط على زوجها، بل تعيش قلقًا مستمرًا على مصير أطفالها، وتواجه صراعًا داخليًا بين رغبتها في الحداد على زوجها، وفي نفس الوقت رغبتها في النهوض من أجل أطفالها. الشعور بالذنب يرافقها أحيانًا إذا حاولت البحث عن حياة أفضل أو حتى مجرد الابتسام، وكأن المجتمع يريدها في حالة حداد دائمة".
ويرى الشاعر أن الحل يبدأ من تغيير النظرة المجتمعية: "المجتمع بحاجة لإعادة النظر في طريقة تعامله مع الأرامل الشابات. لا يجب أن تُعامل الأرملة على أنها امرأة ضعيفة أو بحاجة للوصاية، بل كإنسانة قوية فقدت زوجها لكنها ما زالت قادرة على إدارة حياتها".
وشدد على ضرورة توفير برامج دعم نفسي لتمكين النساء الأرامل من تجاوز صدمة الفقدان، إلى جانب دعم اقتصادي يمكنهن من العمل أو بدء مشاريع صغيرة تضمن لهن حياة كريمة، بمجرد انتهاء الحرب، ووضعهن أولوية على قائمة "إعمار النفس البشرية" في قطاع غزة.