غزة/ البوابة 24- حلا أبو عيشة:
بغطاء رأس خفيف غطّت فدوى البورنو وجه طفلتها البالغة من العمر 7 أشهر لئلا يطالها لدغ الذباب والبعوض.
في بيتها المهدم جزئيًا بالقرب من سوق فراس -سابقًا- تكابد السيدة (وهي أمٌ لأربعة أطفال) مرارة العيش بالقرب من مكب النفايات العشوائي الذي بدأ المواطنون بجمع نفاياتهم فيه قبل أشهر.
ومنذ اندلاع الحرب على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، تمنع "إسرائيل" طواقم البلديات المحلية، من الوصول إلى مكبّات النفايات الرئيسة في قطاع غزة، مما اضطرها لاستحداث أماكن بديلة داخل المناطق السكنية.
وتخبرنا البورنو بحرقة: "استيقظت ابنتي البارحة بوجهٍ متورم نتيجة لدغات البعوض. بحثت في الصيدلية القريبة عن مرهم لكن الأرفف كانت فارغة تمامًا".
لا تجد السيدة حلًا لتخفيف الألم والحكة عن الطفلة الرضيعة، إلا مسح جسدها بالماء بين الفينة والأخرى، و"هذا أيضًا خيار صعب في ظل شح المياه المتوفرة في المنطقة للشرب ولاستخدامات الحياة" تعقب.
ويُقدر حجم النفايات الصلبة، الناتجة عن المواطن الواحد في قطاع غزة يوميًا -وفق ما قاله الخبير البيئي د.نزار الوحيدي لـ"البوابة 24"- بنصف كيلو غرام، ما يعني أن القطاع ينتج كل يوم ما مقداره مليون ومئتي ألف كيلو من النفايات.
وتتكدس هذه النفايات بين منازل المواطنين في مكباتٍ عشوائية، تُعالج غالبًا بالحرق، وهو الأمر الأسوأ من تراكمها أصلًا.
وحسب دراسةٍ أعدها الباحث عصام الخطيب، لصالح مؤسسة الدراسات الفلسطينية، فإن حرق النفايات بكل مكوناتها المُلوَّثة من البلاستيك والمواد الكيميائية البترولية والصناعية المعقدة، تُنتج كميات ضخمة من السموم المسرطنة والغازات السامة، كالدايوكسين وأول أكسيد الكاربون وأكاسيد النيتروجين والكربون وعدة سموم أُخرى، تقتل الناس من دون أن يشعروا.
حشرات وكلاب ضالة
يعيش المُسن عبد الرحمن عوض (75 عامًا) في خيمةٍ بمواصي خان يونس جنوبي قطاع غزة. هناك، يقاسي وجود تلة نفايات قرب تجمعٍ للنازحين، يزداد حجمها يومًا بعد يوم، حتى أصبحت بيئةً جاذبةً "بشكل لا يصدق" للحشرات والقوارض والزواحف.
يشكو الرجل من ضيقٍ في التنفس، وبثور صغيرة تنتشر في كافة أنحاء جسده، في حين أخبره الأطباء أن وجوده قرب المكب، هو السبب الرئيس فيما يعاني منه من مشاكل جلدية وصحية.
ويروي الرجل الذي هُدم بيته بمدينة خانيونس بشكل كلّي: "في الليل، يجذب المكب الكلاب الضالة. أجدها تدخل الخيمة بلهاثها المرعب فجأة، ولولا أن ابنتي تبيت معي في نفس الخيمة، لما تمكنت من طردها ولا مرة"، مضيفًا: "الفئران أيضًا حدّث ولا حرج، تتقافز على الفراش المهترئ أصلًا، وتضع فضلاتها بين الأواني، الأمر الذي يزيد فرص الأمراض ونقلها".
ووفقًا لمراقبين، فإن دولة الاحتلال، تريد من خلال منع أساسيات العيش المدني في قطاع غزة، كالمياه والكهرباء والغذاء والوقود المطلوب لتحريك سيارات البلديات من أجل التخلص من النفايات الصلبة في مكباتها المعتمدة والآمنة، دفع السكان باتجاه الهجرة.
أمراض جلدية ونزلات معوية
وهذا ما تفكر به فعليًا نور السيد، التي تقطن منطقة الشيخ رضوان وسط مدينة غزة. تقول: "لقد تحول قطاع غزة إلى مكرهة صحية ومعيشية كبيرة. تلال النفايات تنتشر في الشوارع الفرعية والرئيسة، والبلدية لا تستطيع تحريك سيارة واحدة دون وقود. نحن نموت ببطء، وإن لم تقتلنا الصواريخ، سيقتلنا المرض".
تقول: "أمي تعاني من الربو، ورائحة النفايات التي تزكم الأنوف مع كل نسمة ترهق صدرها"، مشيرةً إلى انعدام الأدوية والبخاخات الخاصة بمرضى ضيق التنفس، "وبالكاد تمكنا من توفير واحدة قبل وقت قصير بسعر مبالغ فيه من إحدى الصيدليات في منطقة أخرى" تعقب.
وتتابع: "قبل عدة أيام، أصاب ابنة شقيقي ذات الثلاثة أعوام نزلة معوية شديدة، وهذا صار أمرًا متعارفًا عليه بين سكان المنطقة. قيء وإسهال شديد يصيب الأطفال بشكل دوري. نحن نعرف تمامًا أن السبب هو المكب، والحشرات التي تدخل بيوتنا بعد أن ترتع فيه، لكن ما باليد حيلة"، مناشدةً ما وصفته بـ"ضمير العالم" للتحرك من أجل إنقاذ "الإنسان" في غزة من هذه "المقتلة".
ويعاني قطاع غزة، منذ أيام ما قبل بدء الإبادة في السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023م، من مشكلة إدارة النفايات، حيث كان يتم إنتاج 1,700 طن من النفايات يوميًا، يستوعبها مكبّان رئيسيان فقط.
قبل الحرب على سبيل المثال، تم التخلص من 3.9 مليون طن من النفايات في مكب نفايات جحر الديك الرئيس في الشمال؛ وقد تراكمت النفايات بمعدل 20-35 مترًا فوق سطح الأرض.
وظل المكب يعمل لسنوات فوق طاقته، مع تكرار حوادث الحرائق بسبب نقص الموارد، وتزايد المخاوف بشأن الآثار البيئية والصحية والاجتماعية السلبية.
وبشكلٍ عام، انخفض عدد مركبات جمع النفايات الصلبة في غزة من 112 إلى 73 في الفترة بين عامي 2017م، و2022م، ومعظم هذه المركبات قديم، كما أن عددها لم يكن كافيًا، حيث كانت مركبة جمع واحدة تخدم 21,000 نسمة، وعامل جمع واحد لكل 3,343 نسمة.
وجاءت الحرب لتزيد حجم الدمار، وتشل البنية التحتية الحيوية لجمع النفايات، وتفاقم الوضع المتردي بالفعل.
تسرّب "العصارة"
وبالعودة إلى الخبير البيئي، د.الوحيدي، فقد حذر بشكل حازم من انتشار المكبات العشوائية بين خيام ومنازل المواطنين، "وهو الأمر الذي يهدد بانتشار الأمراض الجلدية والتنفسية الصعبة، ويحول تلك المناطق إلى بيئة جاذبة للفئران والجرذان الكبيرة والناموس والذباب، الناقلة للأمراض" على حد قوله.
ويضيف لـ"البوابة 24": "الخوف الأكبر أن تلك النفايات أصلًا، باتت خليطًا من نفايات عضوية ومعدنية وأتربة وبقايا ركام البيوت المدمرة، وهذا يعني أنها قد تحتوي على مواد كيماوية وإشعاعية سامة وضارة ناتجة عن المواد المتفجرة التي ألقتها الطائرات الإسرائيلية في القطاع، لا سيما في حال تسرب عصارة تلك النفايات إلى الخزان الجوفي"، مشددًا على ضرورة الإسراع في دفن النفايات بالطريقة الآمنة، والمعتمدة دوليًا في قطاع غزة، وإدخال الوقود والآليات اللازمة للبلديات في قطاع غزة، وتسهيل مرورها بين المناطق منعًا لكارثة كبيرة على المستويين الصحي والبيئي.
وتابع: "مياه الشرب التي تعد عمود الحياة بالنسبة للمواطنين في قطاع غزة، وصار الناس يشربونها الآن بلا معالجة نتيجة قصف محطات المعالجة والتحلية، ستكون بمثابة سم قاتل إن تسربت إليها مياه الصرف الصحي وعصارة النفايات المتراكمة في كافة شوارع القطاع".
وأشار الوحيدي إلى أن معظم سكان غزة، باتوا يعتمدون على حرق النفايات من البلاستيك والنايلون لطهو الطعام بدلًا من الغاز الذي يمنع الاحتلال دخوله إلى القطاع، "وهذا يضع المواطنين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما المرض أو الموت".
وكانت بلدية غزة، كبرى بلديات قطاع غزة، قدّرت حجم النفايات المتراكمة داخل المدينة، بأكثر من 170 ألف طن، "بما يشكل كارثة صحية وبيئية في ظل عجز البلدية عن جمعها وترحيلها بسبب قيود الاحتلال".
وتعد المكبَّات التي أقامتها بلدية غزة، وغيرها من بلديات القطاع كحلول مؤقتة بسبب خطورة الوصول للمكبات الرئيسة، أزمة إضافية بحد ذاتها، إذ أدت لانتشار الأوبئة والأمراض بين المواطنين، خاصة الجلدية والمعوية، حيث اضطرت لتجميع النفايات داخل المناطق السكنية بسبب منع الاحتلال الوصول لمكبات القطاع الرئيسة.