في كل بقعة نزوح.. لأم أحمد "فرن طينة" "وخيرٌ" تقدمه بـ"رغيف"!

324535.jpg
324535.jpg

غزة/ البوابة 24- رشا كحيل:

من فرنٍ بدائيٍ قديم، شُيّد من الطين، تفوح رائحة الخبز الطازج. تجلس أمامه أم أحمد، وتتلقف الأرغفة المنفوخة قبل أن تحترق، وبرفقتها شقيقاتها النازحات معها من حي الشجاعية شرقي مدينة غزة.

في المخيم المؤقت الذي تنزح فيه حاليًا، أعادت السيدة بناء الفرن مرةً جديدة. لقد بنته عشرات المرات، في كل مكانٍ كانت تقصده فرارًا من الموت الهابط من السماء على شكل صاروخ! فهو بالنسبة لها ليس مجرد وسيلة لتدبير خبز العائلة، بل مصدر رزقٍ أوحد يساعدها على توفير مستلزماتها الأساسية.

"هذا الفرن هو أملنا الوحيد في توفير طعامنا، لا سيما وقد فقد رجالنا أعمالهم. اضطررنا لذلك من أجل أولادنا" تقول لـ"البوابة 24"، متابعةً: "أعمل وأخواتي بالتناوب عليه، من السادسة صباحًا حتى السادسة مساءً. نخبز للنازحين هنا العجين الذي يعدونه، ونأخذ مبلغًا عن كل رغيف".

خلال الهدنة الأخيرة، عادت العائلة إلى أنقاض منزلها المدمر في حي الشجاعية، بعد حياة ترحال دامت أكثر من عام. بنوا الفرن إلى جانب الخيمة، وعادوا لخبز العجين لأهالي الحي، لكن السلام لم يدم طويلًا. اخترقت دولة الاحتلال الهدنة، واستأنفت قصفها الممنهج للمناطق والأحياء، فاضطرت المرأة وعائلتها للنزوح من المكان. كان أول ما فكرت به بعد تأمين المأوى بناء فرن الطين من جديد!

IMG-20250430-WA0002(1).jpg
 

بمواد بسيطة

تعبر أم أحمد -التي اكتفت بذكر كنيتها خشية استهداف الفرن- عن استيائها من الغلاء الفاحش في أسعار الحطب والأخشاب، قائلةً: "نشعل الفرن بالكرتون والقماش، وأحيانًا ببواقي البلاستيك. الدخان خانقٌ ومؤذٍ وأنا مريضة، لكن ما من خيارٍ آخر".

أصعب ما تواجهه السيدة النزوح المفاجئ، حيث تكون بمجرد استقرارها، قد بدأت بالركون إلى أنها "آخر مرة" على حد تعبيرها. تتعرف إلى جيرانها، وتعرفهم عليها، تبني فرنها وتبدأ العمل، ثم ما تلبث أن تسمع عن أوامر إخلاء جديدة، فتترك الفرن، وأحيانًا الخيمة تحت نيران القصف وترحل، ويضيع كل ما بنته مرةً أخرى.

بمواد بسيطة، تحاول أم أحمد بناء فرنها في كل مرة: تراب، وبعض الماء، وأحجار من البيوت المهدمة. تجبل الطين بأصابعها النحيلة، وتشكله ليحتمل معها أيام الحرب المرة. تعلق: "أتعب كثيرًا في صناعته كل مرة، لكنه يقينا ذل السؤال، ويقدم خدمة للناس في ظل انعدام الوقود وغاز الطهي".

مع كل موجة نزوح، تعيد العائلة التجربة من جديد. في خانيونس أولًا، ثم في رفح، وبعدها في النصيرات، ثم إلى خانيونس حتى ما قبل الهدنة. في كل مرةٍ تبني فرن الطينة قبل الخيمة، وتبدأ سعيها في طريق الرزق الصعب في الإبادة.

IMG-20250430-WA0001(1).jpg
 

بدائل مُرّة!

في مشهدٍ يشبه صور الحياة الشعبية القديمة، يتحول فرن أم أحمد -أينما وجد- إلى ملتقى يومي! تجتمع هناك النسوة، ويزدحم بهن المكان. تحمل كل واحدةٍ منهن صينية عجينها، وتنتظر دورها، بعضهن يدفعن أجرة، وأخريات يعرضن المساعدة مقابل أرغفة تكفي عائلاتهن.

انتظروا، الأمر ليس بتلك السهولة، فمجرد توفير الحطب لتشغيل نار الفرن معضلة بالنسبة لأم أحمد، ناهيكم عن صعوبة توفير الطينة المناسبة، وبعض الأسمنت الخاص ببناء الفرن، "عوضًا عن التعب الذي نصاب به نتيجة تشغيل الفرن بمواد بديلة" تزيد.

وتحكي السيدة عن محاولتها إيجاد بدائل للأسمنت الذي وصل سعر الكيس منه إلى 600 شيقل، وانعدام التبن الخاص بعجينة الفرن نفسها، الذي استبدلته بالحشيش اليابس.

وتختم بحرقة بينما تمسح عرقها بطرق كُمّها الذي طاله رماد الحطب: "يخنقني الدخان، لكن الجوع أخطر. ما نصنعه على هذا الفرن ليس مجرد خبز، في كل رغيف قصة صبر وتحدٍ وإيمانٍ بأن الغد سيكون أفضل. نحن لا نملك إلا هذا الفرن، الذي تمكنا من تحويله إلى لغة حب جماعية نتنشق منها رائحة الوطن وطعمه"، مردفةً: "ناس كثير ما معهم ثمن الخبز بنخبزلهم ببلاش، وبنعطي من المتوفر معنا للي ما عنده طحين (..) هذا اختبار إلنا كلنا، واللي بيسند الناس الله بيسنده".

البوابة 24