غزة/ البوابة 24- رشا كحيل:
في مدينة يُحيط بها الدمار من كل الجهات، ويحاصرها الجوع، وتتزاحم الخيام فيها على الأرصفة وفي وسط الطرقات.. تعلن فيها الصواريخ انتهاء اليوم، وأوامر الإخلاءات بدء النهار لا يجد الغزّيون فسحةً للنجاة إلا فيما يُشبه "ممازحة الحياة"..
هنا وسط الأرواح المحطمة لا تُكتب "السخرية" على الهامش، بل في القلب. تُولد من تحت الركام، وتخرج من فم الناجي كنَفَسٍ أخير، أو كصرخةٍ خافتة ترفض أن تستسلم.
تقول الكاتبة الغزية فداء زياد عن علاقتها بالكتابة الساخرة: "نكتبُ لا لنُضحك القارئ، بل لنخبره أننا مثله.. نقاوم، ولو بالكلمات".
بدأت زياد رحلتها مع الكتابة الساخرة، بعد أن آمنت بأن الواقع في قطاع غزة، "يحتاج لأن لا نثقل قلوبنا بما لا تحتمل.. أن نكون أخف ونحن نعبر عنه"، مستشهدةً ببيتٍ شعري، أشارت إلى أنه يعبر عن فلسفتها في هذه القضية: (أكاد بدافع الكبرياء أن أسخر.. أكثر مما أحزن."
السخرية بالنسبة لها ليست بديلًا عن الحزن، بل محاولة للاتزان عندما يختلُّ كل شيء! لكن الأمر لا يسير بسهولة حينما تكون الكاتبة (امرأة).
تحكي: "أدرك أن أكتبه قد يساء فهمه أحيانًا، أو يُهاجم بشتائم وتأويلات، لكنني أمضي.. هناك الكثير من المحاذير في رأسي، لكنني أحاول أن أكون صادقة مع نفسي قبل أي شيء. الكتابة تمثلني، وتمثل الناس الذين أكتب عنهم دون مواراة أو خجل".
وترفض فداء السخرية من الموت أو الدم الفلسطيني، وتضعهما في خانة "الخطوط الحمراء"، لكنها تسخر من الآثار الاجتماعية للحرب، من انعدام الإحساس، من الفوضى في ردود الفعل.
وتروي موقفًا وثّقته أثناء عزاء أمٍ فقدت زوجها وولديها، حين التفتت إحدى النساء إلى صديقتها التي تبكي وتستهلك المحارم قائلةً: "بالراحة على الكلينكس، هو موت وخربان ديار!". تتوقف فداء عند هذا المشهد "الكوميدي- القاسي" على حد وصفها، وتتساءل بمرارة: "كيف يمكن أن نضحك على شيء بهذه القسوة؟ لكنه حدث."
وترى أن السخرية أحيانًا تكون "إسعافًا أوليًا للروح"، حين يجد القارئ جملة تعكس وجعه ويبتسم رغم كل شيء. "ننقل القصص ونطرح سؤالًا دائمًا ونحن نكتب: كيف تُبنى الحياة بعد كل هذا الخراب؟".
ويبدأ أكرم الصوراني حديثه لـ"البوابة 24" بقوله عن الكتابة الساخرة في ظل الإبادة: "أنا مش كاتب، أنا مش ساخر"، مستعينًا بمقطعٍ طويل من نصٍ أدبي مكثّف باللهجة العامية، يفيض بالسخرية والمرارة والفانتازيا السياسية والاجتماعية.
في سرده، يمتزج الهزل مع الجرح، ويتحول كلّ ما هو عبثي إلى مرآة لواقع أكثر عبثية. "كلّ ما قلمي بيكتب كلمة، بروح وأنا شاطب" يخبرنا، وكأنه يرفض الادعاء بأنه اختار السخرية، بقدر ما فرضها الواقع عليه فرضًا.
ويشرح: "لم أتبنَّ أي أسلوب. كنت أكتب فقط، وهناك من وصف كتاباتي بالساخرة. لكن ماذا يعني أن تكتب كتابةً ساخرة في ظلّ حربٍ مفتوحة؟ الصوراني يرى أن الحرب تُحفّز أحيانًا، لكنها في أحيانٍ كثيرة تُثقِل الكاتب بالكآبة وتعوقه عن الكتابة.
"ما يحدث في غزة لا يصدقه عقل، ولا تتحمله طاقة بشر"، يقول، مؤمنًا أن السخرية لا تعترف بالحدود أو القيود، بل تنبع من الناس وتعود إليهم، وهي جزء من المقاومة اليومية. يزيد: "بعد العدوان، صرت أؤمن أن في غزة مليون نجيب محفوظ، ومليون روائي، كلٌّ منا سيكتب روايته، وسيُسجِّل ألمه، وجوع أطفاله، وضياعه."
ويقول الصوراني أن مصدر شرارة السخرية وسط هذا الدمار، تأتي من الوجع، من بذاءة الواقع، من الخيمة، من الخيبة، من المقبرة، من هاشتاغ أطلقته قبل سنوات اسمه #خيمة_تخيبنا". بالنسبة له، الحياة نفسها "مزحة سمجة"، "والخطر الحقيقي في أن يأخذها أحدٌ على محمل الجد" على حد تعبيره.
لا ينكر أن البعض قد يسيء فهم السخرية، لكن هذا يرتبط –برأيه– بزاوية نظر المتلقي: "هناك من يرى أنها غير مناسبة، وهناك من يناور"، في إشارة إلى التوتر القائم بين صوت العقل وصوت العاطفة في زمن الكارثة.
ويصف أكرم "الأدب الساخر المقاوم"، بأنه أداة فاضحة، فالسخرية عنده سلاح: "هي شكل من أشكال مقاومة الواقع، مقاومة للظلم، والاستبداد، والتخلف، والاستغلال. الساخر يُقاوم بطريقته الخاصة في الفضح والتشريح".
تتجلى هذه الفلسفة في مؤلفاته الثلاثة: "وطن خارج التغطية"، و"وطن نص كوم"، و"شسمو!"، التي يقول إنها كلها كُتبت من رحم المعاناة. ولعلّ واحدة من أكثر اللحظات التي لامست الحبر والضحك معًا، كانت رحلة عودته الأخيرة إلى غزة بعد ست نزوحات.
يسرد الصوراني تفاصيل العودة كأنه يكتب مشهدًا سينمائيًا ساخرًا، من اجتماع "الكابينيت العائلي" كما يسميه، إلى حوارات سطح "التوكتوك"، ومن تحذيرات الأصدقاء إلى نكات السائقين: "مش حلوة بعد سنة ونص حرب وقصف يقولوا ماتوا بحادث توكتوك!".
ضحكٌ يوجع القلب كما يُضحكه. عشرات الصور، وأحاديث المصادفة، وبنايات سقطت على الطرقات، وخوفٌ ما زال يركب الجميع، كلّ ذلك يسرده الصوراني بنكهة مرّة، فيها ما يُضحكك حدّ البكاء.
في غزة، لا يكتب الكُتّاب الساخرون من أجل الإضحاك، بل من أجل البقاء. السخرية هنا ليست ترفًا، بل أداة إنقاذ نفسي، وسلاح خفيف لا يُرصد. على الحافة بين الحياة واللا جدوى، يضحك أكرم وفداء، ويكتب كلٌ منهما ليُبقي بصيص عقل في هذا الجنون الكبير، ففي زمن الإبادة، ربما تكون السخرية آخر ما تبقّى من الكرامة.