"أنا ومن بعدي الطوفان".. الجانب المظلم لغريزة "البقاء" بغزّة!

أنا ومن بعدي الطوفان
أنا ومن بعدي الطوفان

غزة/ البوابة 24- حلا أبو عيشة:

بعد لحظاتٍ من إشعال الحطب لإنضاج العجين، سمع أحمد (اسم مستعار) طرقًا على الباب. خرج مسرعًا ليرى الطارق فإذا به جاره، يطلب منه كوب طحينٍ واحد، بعد أن نفد لديه المخزون كله؛ ليصنع رغيفَي خبز لابنته المريضة.

اعتذر أحمد وأقسم أنه بالأمس طحن العدس والمعكرونة ليصنع خبز عائلته، وأن الباقي منه "فتاتًا" سيأكله أطفاله على الغداء اليوم.

غادر الجار مستاءً، وقد بدأت رائحة الخبز تنبعث من فرن بيت جاره. كان يعرف تمامًا أن لدى أحمد ما يكفي ليعطي منه كوبًا واحدًا لطفلة مريضة، لكنه في نفس الوقت عذَرَه، "ففي هذه الحرب غيّرت المجاعة النفوس، وخلقت أنماطًا إنسانية تطغى على تفكيرها "الأنانية" وحب الذات" يقول لـ"البوابة 24".

"أنقذ نفسك"

ويمكن أن تدفع الحرب الإنسان كي يصبح "أنانيًا"، لأنه ببساطة يحاول أن يبقى على قيد الحياة -وفق الأخصائية النفسية ليلى أبو عيشة- "فعندما تقل الموارد، وتصبح النجاة بعيدة يختار البعض أنفسهم قبل أي شخصٍ آخر، وهذا لا يعني ذلك أنهم أشرار، "لكنها الغريزة البشرية التي تصرخ تحت تلك الظروف: أنقذ نفسك" تستدرك.

ويروي (أ.م) موقفًا عايشَه مع شقيقه الذي تَشَارك معه النزوح في خيمةٍ بمواصي خانيونس، جنوبي قطاع غزة، وفصلا بين عائلتيهما بقطعة قماشٍ صغيرة.

يقول: "أنا أب لأربعة أطفال، وهو أبٌ لخمسة. طفلي الأصغر عمره خمس سنوات، وفي مرةٍ اشتهى الحليب، وكان أخي قد استلم من إحدى المدارس آنذاك ثلاثة أكياس. ذهبتُ إليه لأطلب منه ملعقتين، فلم أجده. سألتُ زوجته فأخبرتني أنه نفد"!

ويخبرنا: "لما عاد أخي عاتبتُه، فإذا به يبرر لها تصرفها بقوله: اعذرها، خايفة يخلص وما يوزعوه تاني"، وبرغم أنه قدم له ملعقتَي الحليب بنفسه، إلا أنه رفض أخذهما، وأسرها في نفسه "حزنًا" وقهرًا.

وبرغم أن غريزة البقاء تكون في قمّتها أثناء المجاعات، إلا أن "التعميم" هنا، يمكن أن يظلم أناسًا اختبرت الحرب معادنهم، فأظهرتها تلمع كبريق الذهب، وسط تضحيةٍ وإيثارٍ نادرين.

يذكر فراس (14 عامًا) عن جدته "نجوى" موقفًا لا ينساه لها ما دام حيًا، عندما استشرت المجاعة بداية الحرب في قطاع غزة، بمناطق الشمال، ولم يعد لدى الناس هناك طعام أو شراب. كانت جدّته مريضة السكّر تخبّئ "التمر" خشية الهبوط المفاجئ، وفي يومٍ وبينما كان يعبث في درج غرفتها، وجد العلبة وفيها حبّة أخيرة.

قال لجدته: "تمرة"، فنهرته أمه، وطلبت منه إرجاعها لجدته على الفور، "فهي لحاجتها"، إلا أن الجدّة أقسمت عليه ليأكلها، وقالت: "خليه ياكلها، أنا شبعت من الحياة.. هو باقي له عمر".

"الجماعة" أمان

"الأنانية" التي تخلقها الحروب، والظروف العصيبة، لا تقتصر فقط على مواقف الطعام والشراب، فهناك أنانية أخرى مقترنة بتقديم الخدمات والمساعدة (حتى لو كانت بالمستطاع). على سبيل المثال، يحكي (يزن) عن أشقائه الذين لطالما وفّر لهم السيولة النقدية، في ظل اختفائها من الأسواق "من فم الأسد" كما يعبّر.

ويقول: "لما احتجتهم بعملية تحويل بنكي لمبلغ بسيط كَدَين، تنصلوا جميعًا. كنت أحتاجه كي أسدد به مبلغًا لأحد المحلات بقيمة 100$، لكنهم رفضوا، وكل واحد ألقى بحجة مختلفة".

يتساءل: "كيف يمكن للحرب أن تفعل هذا بنا؟ كيف يمكن أن يخشى المرء من مساعدة أخيه في وقتٍ تحرقنا فيه النار جميعًا"، مردفًا: "أتفهم الخوف من المستقبل. لكن في وسعهم مساعدتي؟ هل يخشون أن أستشهد فلا أسدد ما علي مثلًا؟".

على النقيض، تحكي "يُسرى" عن حماتها (أم مؤيد) التي حرمت على أيٍ من بناتها أو أبنائها أو كنائنها الأكل المنفرد في وسط هذه المجاعة. قالت: "تفضل أن نتقاسم اللقمة جميعًا. إما أن يعيش الجميع أو أن يقتلنا الجوع معًا".

وتزيد: "في بعض الأحيان، تطلب حماتي تجهيز الطعام للأطفال، فتطعمهم حتى يشبعوا، ثم تأكل معنا ما تبقى. تقول لنا: هم أولى، نحن كبار ونحتمل الجوع"، مردفةً بتأثّر: "رغم انتقادي لتحكمها الكبير، إلا أنها جعلتني أشعر أن الجماعة في الحرب تعني الأمان النفسي، والدعم، والأمل.. وأننا عندما سننجو معًا سوف يتذكر جميعنا بعضه بالخير، أو أن نموت معًا فلا يحمل أحدنا ذنب الآخر في رقبته".

غريزة البقاء

عودةٌ إلى الأخصائية النفسية أبو عيشة، التي أشارت إلى أن الأنانية التي تخلقها الحرب، ليست دائمًا "عيب" في الشخصية، بل يمكن أن تكون ردّة فعل طبيعية لغريزة البقاء، وأسبابها غالبًا: "الخوف المفرط، حين يشعر الإنسان بأنه مهدد دائمًا، وفقدان الثقة بالآخرين، حين يرى منهم الأنانية فيردها لهم ولغيرهم، بالإضافة إلى الصدمة، كفقدان الأحبة نتيجة الجوع الشديد، حيث تصله إشارات بضرورة أن يحمي نفسه"، ملفتةً إلى أن السبب الرئيس قبل هذا كله "نقص الموارد".

وتشير أبو عيشة، إلى أن الإنسان -غير الأناني بطبعه- لن يلتفت إلى تغير شخصيته نحو "الأنانية" في ظل الحرب، فما يتحكم به هو "غريزة البقاء"، و"الرغبة بالنجاة"، ولهذا لا يمكن الحديث عن علاج حتى انتهاء الحرب.

"لكن في حال كان الإنسان قادرًا على رصد هذا التغير في وقت الحرب، فعليه أن يعيد برمجة أفكاره على الفور، وأن يرى الواقع من زاوية أوسع، "ويكفي أن يرى تجارب الآخرين حوله، فيفهم أنه ليس الوحيد، لكن عليه أن يقف هنا. أن يراجع نفسه، ويضع حدًا لتطور هذه الخصلة، وأن يدرك أن الموت بيد الله، وأن ما يقدمه الإنسان لأخيه الإنسان لا سيما في ظل هذه الظروف، سيُردُّ إليه ولو بعد حين".

البوابة 24