غزة/ البوابة 24- صفاء كمال:
"تزوجت، وما زلت أحلم بنفسي عروسًا بفستان أبيض. ربّما لو كنت في مكان آخر، لكان هذا طبيعيًا، لكن غزة استثناء؛ حتى العروس فيها تُزف من دون فستان، على وقع أصوات الصواريخ.. وهذا ما حدث معي".
بهذه الكلمات تسترجع إحسان محمد لحظة زفافها، تلك التي لم تكن كما رسمتها في خيالها، بل كما فرضتها الحرب. بعد عام من الفراق القسري بينها وبين خطيبها رامي، بسبب الحصار والانقسام الجغرافي الذي فرضه الاحتلال بين شمالي القطاع وجنوبه، قررا الزواج رغم كل شيء.
"لماذا نتزوج في الحرب؟"، سؤال يتردد على ألسنة الكثيرين داخل غزة، حتى بين أهلها أنفسهم. تجيب إحسان دون تردد: "لأننا نحتاج إلى بعضنا.. لأن الموت يُحيط بنا، وفي الزواج حياة، ولو متنا، نموت سويًا. على الأقل، إن استشهد أحدنا، سيكون الآخر هناك ليدفنه بيده".
في منتصف فبراير 2025م، بلا مراسم، وبلا فستان أبيض، ولا زفّة، ولا صديقات ولا حنّة، ولا حتى لحظة لالتقاط صور للذكرى، أمسك رامي بيد خطيبته، وسارا معًا نحو مكان نزوحه المؤقت. عبرا حاجز "نتساريم" تحت أعين الجنود المصريين والأمريكيين، وأعينهم تفيض بالحنين إلى وجوهٍ غابت عن الحياة.
تقول إحسان: "فقدت أبي في الحرب، واستشهد شقيقي، وقُصفت شقة العمر التي أعددناها معًا.. اليوم، لا أعيش كعروس، بل كنازحة تنتقل من مكان إلى آخر، أبحث عن الماء والخبز والنار لصنع كوب شاي. يدَيّ مشققتان من الحطب.. ومشاعري مثقوبة مثل خيمتنا".
وفي مشهد آخر، تجلس أروى (18 عامًا) وسط خيمتها في دير البلح. كانت سنة 2024م عامها الدراسي الأخير، سنة التوجيهي، التي حلمت بأن تنهيها بتفوق وتلتحق بالجامعة. لكن الحرب غيّرت كل شيء. تقول: "تقدم ابن عمي لخطبتي مرات عدة، كنت أرفض، لكن أجواء البيت المتوترة دفعتني في النهاية للموافقة، بعد أن وعدني بأن يدعمني لأكمل دراستي".
خُطبت أروى في سبتمبر 2024م، بلا حفل، بلا فرحة حقيقية. لم تخرج في موعد معه، لا عشاء على البحر، لا صور ولا لحظات تحفظها ذاكرتها. "كانت الخطوبة صامتة.. بل صادمة كالحرب"، تقول. وبعد شهرين، تم الزواج، زواج بسيط، بلا زفاف، احترامًا للدماء والشهداء.
تتابع: "كنت أحلم برقصه صغيرة، بصورة مع صديقاتي، بهدية أو زيارة.. بأي شيء يجعلني أشعر أنني عروس. لكن كل ذلك اختُطف، لم أحصل على أي شيء سوى خيمة نعيش فيها مع عائلته. لا غرفة لنا، فقط قطعة قماش تفصلنا عن الآخرين. لا خصوصية، لا ثياب، لا زينة، حتى ثوب الصلاة صار ملبسي اليومي".
وبعد ثلاثة أشهر من الزواج، اكتشفت أروى أنها حامل. مشاعر مختلطة اجتاحتها وزوجها: "فرحنا.. لكننا خفنا. هل سأجد طبيبًا؟ هل أستطيع شراء دواء أو ملابس للطفل؟ وهل سألد على صوت القصف أم في خيمة؟". تقول بحزن: "أنا اليوم في شهري الخامس، ولا أملك حتى مرآة لأرى بطني وهو يكبر".
ثم تنهي حديثها بصوتٍ خافت: "أشعر بالذنب، لأنني جلبتُ حياةً جديدة إلى عالمٍ يموت. كل التفاصيل الصغيرة التي تُبنى بها الذكريات الجميلة سُرقت مني. خُطِبت وتزوجت وحملت في عامٍ واحد.. هو ذاته عام الحرب".
على الجهة الأخرى، هناك عريس الحرب أحمد، في الرابعة والثلاثين من عمره. اختار الزواج خلال الحرب على أمل أن يجتمع مع خطيبته ويصنعا بداية لحياة مستقرة. لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا. يقول: "الزواج في الحرب ليس استقرارًا. إنه ضغط نفسي متواصل، ومخاوف دائمة من الغد. لا بيت نعيش فيه، أحيانًا خيمة، أحيانًا مدرسة، أحيانًا عند أقارب، ولا لحظة خصوصية واحدة".
كان يتخيل سنة أولى من الحب، من القرب، من النزهات الليلية ووجبات الإفطار على البحر. "لكننا بالكاد نتحدث، نخفض صوتنا كي لا يسمعنا أحد داخل الخيمة. لا مكان للحديث، ولا للضحك، ولا حتى للزعل".
يحلم أحمد بالعودة من عمله المتعب ليأكل وجبة يحبها من يد زوجته، لكنه يقول: "لا غاز للطبخ، ولا مواد غذائية، ولا حتى بيت نعود إليه. كل شيء صار مؤجلًا حتى إشعار آخر".
ويختم: "تزوجت على أمل أن نستمر، أن نعيش رغم الموت. لكن هذا الخيار، رغم جماله، باهظ جدًا نفسيًا وإنسانيًا. الزواج الذي حلمت به في مخيلتي كان مليئًا بالتفاصيل الجميلة.. أما زواجي في الحرب، فمجرّد محاولات للنجاة. أنا كعريس حرب، حُرمت من كل شيء".
وتعد السنة الأولى من الزواج بالغة الأهمية للزوجين من أجل إنشاء علاقة ملؤها المودة والسكينة، قادرة على الاستمرار، وعادة ما تكون هذه السنة هي الأصعب، لأنها تكون مليئة بالتغييرات والتحولات حتى يتكيف الزوجان مع أدوارهما الجديدة. مع ذلك فإن كيفية تعامل الزوجين خلال هذه الفترة أمر بالغ الأهمية لإنجاح الزواج.
حالات عديدة ينتهي الحال بها إلى الانفصال خلال هذه السنة الحاسمة، بسبب عدم تفهم أحدهما أو كليهما لحاجات الطرف الآخر وعاداته، وعدم الانسجام أو التوافق بين رغبات الطرفين ومطالبهما، "فما بالنا ونحن نتحدث هنا عن سنة أولى زواج.. في الحرب؟" تتساءل الأخصائية النفسية منى ياسين.
تشير الأخصائية ياسين، إلى أن الظروف للحديث عن أهمية "سنة أولى زواج" في غزة، غير طبيعية، "فلا بيت، ولا خصوصية، ولا حتى فرصة للتعارف الحقيقي".
وتقول: "أجبر كثير من الأزواج على السكن في خيمة. في خيمة، يعني أن الزوجين محاصرَين بعشرات الآذان والعيون! صوتهما محسوب، حركتهما، وحتى ضحكتهما محسوبة".
وتضيف: "نتحدث عن سنة صناعة الذكريات. لكنها في غزة تمر ثقيلةً جدًا في ظل ظروف الإبادة: لا موعد عشاء، ولا محاولات لتطبيق وصفات (أبو جوليا)، ولا سهرة أمام فيلم قديم، ولا صحن مكسرات وحديثٍ ينتهي مع طلوع الفجر.. لدينا فقط صوت القصف، صوت الخوف، ومطحنة الحياة التي تردي الزوجين آخر اليوم على فراشهما كقتيلين لشدة التعب".
وتلفت ياسين إلى أن معظم الشبان، سواء كانوا يسكنون الخيام أو البيوت، يعيشون في سكن مشترك. ما يعني أن حجم التدخلات -على الأغلب- سيكون كبيرًا جدًا، وهذا وحده سبب لمشكلات لا حد لها، قد تتسبب بخلق كراهية ونفورٍ بين الزوجين على المدى البعيد".
والمطلوب من الزوجين -لمحاولة دفع الحياة إلى بر النجاة- معًا، تفهّم خصوصية الزواج في ظل الحرب والنزوح أولًا، والاستعداد لمرحلة صعبة من الخوف والنزوح المتكرر وفقدان الاحتياجات الأساسية، وتقييد الحركة، والصوت، والملبس، وفق ياسين، مردفةً: "لو تمكن الزوجان من فهم ذلك قبل الزواج، واتخذا قرار إتمام الزيجة رغم ذلك كله، سيهون كل شيء. على الأقل حتى انتهاء الحرب. سيستطيعان الاستمرار -وفق تفهمهما لكل تلك الظروف- لا الزوجة تتطلب ولا الزوج ينتقد ويغضب".
وأوصت بمحاولة خلق ذكريات رغم كل شيء، بزهرة لطيفة، أو بصورةٍ يُسمع منها صوت الضحكات، أو بلقمةٍ يشتهيها لها يخبئها عن عيون الكل، أو بتفهّم وطبطبة على الكتف، وعبارات تهوّن مُر الأيام وقسوتها تحت أصوات القصف والحصار".