غُربال العمولة الكبيرة يُقزم المساعدات النقدية للنساء

سيدة من غزة تحمل عملة الشيكل
سيدة من غزة تحمل عملة الشيكل

غزة/ البوابة 24- حنان الريفي

"والله حرام، أنا محتاجة المبلغ كتير"، قالتها وهي تضرب كفًا بكف، وقد ارتسمت علامات الدهشة على وجهها حين قدم لها تاجر العمولة بقية مبلغ المساعدة النقدية "1000 شيكل".

تقول أم فؤاد (35 عامًا)، وهي مُعيلة لأسرتها بعد سفر زوجها مرافقًا لأحد مصابي العائلة إبان جريمة الإبادة الجماعية التي ما زال الاحتلال الإسرائيلي يرتكبها منذ أكتوبر 2023: "أمرّ بظروف معيشية صعبة، بعدما استولى صديق زوجي على منزلي المُستأجر وعفشي، فبدأت أعيش في الخيام نازحة من مكان إلى آخر".
وتضيف: "عندما حصلت على المساعدة النقدية من اليونيسف شعرت بسعادة كبيرة، لأنني أخيرًا سأشتري لأبنائي ما يسدّ جوعهم. هذه المرة الأولى التي أحصل فيها على مساعدة نقدية بعد عناء طويل من محاولات التسجيل عبر الروابط المختلفة، وتوجهت لإنشاء محفظة PayPal، ولم أكن أعلم أن المبلغ سيُخصم منه عدة مرات قبل أن أحصل عليه".

وتتابع: "عندما ذهبت إلى أحد المحلات المعروفة لسحب كود الصرف، طلب مني الموظف 20 شيكلًا لإدخال الكود في المحفظة التي أنشأتها، وكنت قد دفعت مبلغًا إضافيًا لإنشائها، استدنته من جارتي في الخيمة على أمل إرجاعه بعد صرف المساعدة. لفت انتباهي وجود ملصقات عديدة لمؤسسات دولية في المكان، تؤكد أن المبلغ يُستلم كاملًا دون نقصان، وهذا عكس ما حدث فعليًا".

"لم أتمكن من استلام المبلغ مباشرة بسبب عدم توفر السيولة، وتوجهت إلى مفترق السرايا لسحب المبلغ، فوجدت أن العمولة تختلف من شخص إلى آخر بحسب نوع النقود وجودتها، وتجاوزت 35%. تم خصم 350 شيكلًا، بالإضافة إلى مبلغ وضع الكود في المحفظة. شعرت بيأس وخيبة أمل كبيرة؛ كنت آمل أن أشتري لأطفالي ملابس وطعامًا، لكن تجار السيولة النقدية لهم رأي آخر".

تقول أم أحمد (50 عامًا)، أرملة وأم لعشرة أطفال: "لولا حاجتي الماسة للنقود، لما تعاملت مع هذه الجهات المستغلة".
وتضيف: "حصلت في يوم واحد على ثلاث مساعدات نقدية من جهات مختلفة، أقلها 1000 شيكل، وتوجهت إلى سوبرماركت مشهور في دير البلح بعد معاناة كبيرة والشمس فوق رؤوسنا. تمكنت من الدخول عبر بوابة حديدية وضعها صاحب السوبرماركت، ووصلت إلى الموظف. عندما لاحظ أن معي أكثر من كود، أبدى حماسة وساعدني في صرفها، وخصم 60 شيكلًا نقدًا مقابل الأكواد الثلاثة، وأبلغني أن عمولته أقل من السوق. كنت مرهقة جدًا من الانتظار، فوافقت، لكنه خصم ما مجموعه 1800 شيكل من المبالغ التي حصلت عليها. وعندما خرجت واستفسرت عن سعر العمولة، علمت أنه أعطاني عمولة أعلى من السوق، مستغلًا تعبي".

وتقول أماني (37 عامًا): "المساعدات النقدية وضعت لتخفيف العبء عن سكان قطاع غزة، لكن حين تصلني مساعدة، ينشف ريقي فعلًا حتى أصرفها بأقل خسارة ممكنة. يتفنن التجار في سلب الأموال من جيوبنا وابتزازنا تحت مسمى العمولة، ولا توجد رقابة ولا جهة أمنية تحاسبهم".

وتضيف بحزن: "كم سيتبقى لي من المبلغ؟ ليجيب التاجر بلا اكتراث: 'لو ما بدك، غيرك ألف بياخدها بأعلى سعر'، فأضطر إلى سحب المبلغ مخصومًا منه أكثر من 300 شيكل، وعائلتي أولى بها. العمولة توازي ما أنفقه على بيتي لأيام أو تسهم في دفع جزء من الإيجار في هذه الظروف الصعبة. ومهما دعونا عليهم، لا تهتز لهم شعرة؛ فالعمولة وغلاء الأسعار وجهان لعملة واحدة في ذبح الشعب خلال هذه الحرب المدمرة".

"مافيا تجار السيولة"

على مفترق السرايا بمدينة غزة، يتجمهر العديد من الشبان حاملين حزم الأموال بأيديهم ليبيعوها للمواطنين بعمولات متفاوتة، تتعدى 30% إلى 40% أو أكثر، وتزداد في أوقات صرف المساعدات ورواتب الموظفين والأعياد، بسبب إغلاق المعابر الإسرائيلية ومنع إدخال السلع وشُح السيولة، ما يجعل التلاعب بالأسعار أمرًا شائعًا.

كان محمد (24 عامًا) يقف محاطًا بعدد من النساء والرجال يتزاحمون عليه، لكونه الأقل عمولة، نظرًا لكون النقود بحوزته مهترئة.

يقول محمد: "أحصل على السيولة من التجار الكبار الذين يستوردون السلع من خارج غزة ويبيعونها نقدًا، وأعيد بيعها بعمولة محددة. أربح القليل منها لنفسي. أصبحت تجارة العملة مهنة الكثيرين خلال الحرب".
ويضيف: "يضع التاجر السيولة داخل حسابات بنكية مختلفة لتصل أخيرًا إلى حساب التاجر دون أن يُعرف من هو، حتى أنا لا أعرفه شخصيًا".
ويتابع: "العمولة تتغير كل ساعة حسب متطلبات السوق، فالتجار هم المسؤولون عن هذه الأزمة والمنتفعون من بيع السلع والنقود. رغم معرفتنا بعدم شرعيتها، فإننا مضطرون لذلك لتأمين قوت أطفالنا، بعدما أصبحنا نعيش في خيمة على حافة الطريق".

تاجر العمولة شريك في المساعدات والرواتب

تُقزَّم المساعدات النقدية المقدمة للنساء عبر المؤسسات الدولية والمحلية بسبب شُح السيولة النقدية، خاصة مع عجز البنوك الفلسطينية عن توفيرها للمعاملات اليومية. كما يُحتكر النقد من قبل بعض التجار وكبار رجال الأعمال منذ أكتوبر 2023، مما يجعل تاجر العمولة شريكًا فعليًا في المساعدات والرواتب.

ومع اضطرار المواطنين إلى استخدام تطبيق بنك فلسطين، وهو الوحيد العامل في القطاع، والمحافظ الإلكترونية، تُخصم مبالغ كبيرة كعمولة، وصلت إلى أكثر من 42% في عيد الأضحى 2025، مما يزيد من معاناة السكان.

سلطة النقد: مساعٍ لمعالجة أزمة السيولة النقدية

أوضح ريان حنتولي، الموظف في العلاقات العامة بسلطة النقد الفلسطينية، أن السبب الرئيس لأزمة السيولة هو تدمير مقار البنوك ونهب خزائنها منذ 7 أكتوبر 2023، بالإضافة إلى غياب الموافقات الأمنية الإسرائيلية لإدخال النقود إلى غزة، ما يمنع تأمين الأموال أو نقلها داخليًا.

ودعت سلطة النقد الجمهور إلى استخدام القنوات الإلكترونية لإتمام المعاملات مجانًا، دون عمولات، وشجبت قيام بعض الجهات بابتزاز الجمهور، مؤكدة أن ذلك يعد تصرفًا غير أخلاقي، واستغلالًا للمواطنين في ظل الأوضاع الصعبة.

وأشارت إلى أنها تتابع المخالفات من خلال مراقبة الحسابات المشبوهة وتتخذ الإجراءات القانونية، بما فيها تجميد الحسابات. كما أطلقت منصة إلكترونية للإبلاغ عن التجاوزات:
https://complaints.pma.ps

مواقف المؤسسات الدولية

قال كاظم خلف، الناطق باسم اليونيسف، إن 20 ألف أسرة تتلقى مساعدات نقدية شهرية، تم اختيارها وفقًا لمعايير الحاجة والفقر، مؤكدًا أن المساعدات يجب أن تُصرف دون اقتطاع.

وأشار إلى أن اليونيسف اعتمدت منذ مايو 2024 الدفع الرقمي عبر المحافظ الإلكترونية، التي تتيح للمستفيدين شراء السلع من السوق دون الحاجة للنقد، وتتعامل مع شكاوى المواطنين عبر الخط الساخن وتتابع مع مقدمي الخدمات. وأوضح أن حل الأزمة النقدية لن يتحقق إلا بعودة عمل النظام المصرفي.

مراكز محلية: حلول جزئية وتحديات باقية

أوضحت هبة الطيماوي، مديرة برنامج الحماية في مركز "معًا" التنموي، أن المساعدات النقدية بدأت قبل الحرب لتحسين معيشة النساء. ومنذ الحرب، أصبحت جزءًا من الإغاثة الطارئة للفئات الأشد حاجة.

وقالت إن التحدي الأكبر هو العمولة، رغم حملات التوعية التي ينفذها المركز بعدم دفع أي مبلغ مقابل صرف الأكواد، وتزويد المستفيدات بأرقام للشكاوى.

وأضافت أن المركز اقترح رفع قيمة المساعدة بنسبة 40% لتغطية العمولة، لكنه يعتبر ذلك إقرارًا ضمنيًا بشرعية العمولة. ولا تزال المحاولات جارية لتخفيف العبء.

برنامج الأغذية العالمي WFP

أعلن البرنامج أن المساعدات تُقدَّم نقدًا دفعة واحدة دون أي رسوم أو اقتطاعات، وأن المستفيدين غير ملزمين باستخدام المحافظ الإلكترونية أو الشراء من محل معين.

"أمان": النساء الأكثر تضررًا والمساءلة ضرورية

قال وائل بعلوشة، المدير الإقليمي للائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، إن النساء في قطاع غزة هنّ من أكثر الفئات تضررًا من الحرب الإسرائيلية التي خلفت دمارًا واسعًا وإبادة جماعية لعدد كبير من العائلات. وأشار إلى أن النساء وجدن أنفسهن في مواجهة أعباء مضاعفة، أبرزها تولي مسؤولية إعالة الأسرة وتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة، في ظل انهيار الاقتصاد المحلي وانعدام مصادر الدخل.

وأضاف بعلوشة أن المساعدات النقدية والعينية أصبحت مصدر دخل رئيسيًا تعتمد عليه النساء لإعالة أسرهن، وهو ما يجعل من الضروري حماية هذه المساعدات من الاستنزاف عبر العمولات المرتفعة، من خلال تنظيم عملية الصرف وتنسيق الجهود الرسمية والمجتمعية لمواجهة حالات الاستغلال، لا سيما للفئات الأكثر هشاشة.

ودعا إلى ممارسة ضغوط جدية على سلطات الاحتلال الإسرائيلي للسماح بإدخال السيولة النقدية إلى قطاع غزة، واستبدال العملات المهترئة والإصدارات القديمة من الشيكل، في ظل استمرار ارتباط النظام المالي الفلسطيني بالنظام الإسرائيلي، وعدم تمكين الفلسطينيين من إصدار عملة وطنية منذ إنشاء السلطة عام 1994.

كما أوصى بإطلاق حملات مناصرة إقليمية ودولية لتعزيز الحق في تدفق النقد إلى القطاع، ودعت إلى تكثيف التنسيق بين سلطة النقد الفلسطينية والجهات الحاكمة في غزة لضمان توفير بيئة رقابية رادعة تضع حدًا للمحتالين والمبتزين، وتحمي المواطنين من الاستغلال عند سحب أموالهم أو استلام الحوالات المالية، وتؤمن بيئة قانونية وآمنة لعمل البنوك وشركات الصرافة.

وشدد على ضرورة تفعيل المساءلة المجتمعية من خلال تشكيل أجسام رقابية فاعلة خلال الحرب، وتوسيع دور الغرف التجارية في متابعة ومحاسبة "المكيّشين" الذين يفرضون عمولات عالية على صرف النقد. كما أكدت أهمية التوعية العامة بحقوق المواطنين، وتوضيح أن العملات القديمة والمهترئة لا تزال قانونية وصالحة للتداول، وستُستبدل فور انتهاء القيود المفروضة على حركة الأموال.

واختتم بتجديد دعوتها لسلطة النقد لتعزيز التوعية الرقمية والمالية، وتشجيع المواطنين على استخدام أدوات الدفع الإلكترونية كبديل آمن ومستدام للنقد الورقي، بما يحدّ من الاعتماد على السيولة ويحمي المستفيدين من الاستغلال.

البوابة 24