غزة/ البوابة 24- أحلام عبد القادر:
يكتب القدر لـ "أثير" النجاة من تحت الركام بعد غارة جوية إسرائيلية. لا تزال لديها بقية من حياة على هذه الأرض. تنفض عن نفسها غبار ركام البيت، الذي كان قبل لحظات من الغارة يعج بالحياة والضحكات والذكريات.
فقدت "أثير" شقيقتها ومنزلها، ودفنَت الكثير من ذكرياتها تحت الأنقاض، لكن هذا ليس كل شيء سيء حدث مع هذه الفتاة العشرينية، فقد لاحقتها الغارات الإسرائيلية، توقع مجزرة تلو أخرى في كل مكان تهرب إليه بحثًا عن أمان مفقود.
"أثير" هي بطلة رواية أمل أبو سيف (22 عامًا)، واسمها "أثير غزة"، وتقول مؤلفتها إنها تعيش فيها مشاعر كل فتاة فلسطينية في ظل الرعب وصنوف الموت المختلفة التي خلقتها الحرب الإسرائيلية المستعرة التي تفتك بأكثر من مليوني إنسان للعام الثاني على التوالي.
البداية.. حلم
بدأت أبو سيف حكايتها بحلم وانتهت برواية، وعنها تقول لـ"البوابة 24": "روايتي ولدت من قلب مدينة موجوعة.. مدينة تُسرق أحلامها كل يوم، ورغم كل شيء ما زلنا نحب الحياة، نُحسن التمسك بالأمل، ونعيد بناء الحلم من تحت الركام".
جمعت أبو سيف في شخصية "أثير" أشكالًا كثيرة ومركبة من الآلام التي تعصف بالنساء في غزة، وهن الضحايا الأبرز لجرائم الحرب الإسرائيلية. وقد احتلت المرأة مساحة واسعة من رواية "أثير غزة"، وهي المولود الروائي الأول لهذه الروائية الشابة.
ومن بين نساء الرواية تبرز "الخالة آمنة" التي تمثل المرأة الصابرة المرابطة المتمسكة بأرضها ووطنها، وهذه الخالة كما صورتها أبو سيف هي فلسطينية طاعنة بالسن رسمت تجاعيد وجهها خارطة وطن لا تزال تتمسك بأمل تحرره من المحتل، وترفض كل مخططات الهجرة منه.
وترى أبو سيف نفسها من ضمن شخصيات روايتها، وهي التي تعيش في مخيم "النصيرات" للاجئين وسط القطاع، أحد أكثر المناطق تعرضا لنيران قوات الاحتلال، وقد شهد مجازر مروعة منذ اندلاع الحرب، واضطرت أمل مع أسرتها لخوض تجربة النزوح.
ورغم أنها تلمست قدراتها الكتابية منذ صغرها، إلا أن "وحي الكتابة" ألهمها تأليف روايتها الأولى خلال الحرب، رغم حجم الضغوط الحياتية الهائلة.
وتقول أبو سيف: "كتبت أثير غزة لأفرغ ما في قلبي، ولأحتج بصمت على واقع لا يحتمل"، وبعزيمة قوية تضيف: "لا ينبغي لهذه الحرب بكل ضجيجها وقسوتها أن تسكت أصواتنا".
لوحات من وجع ودم
من خيمة إلى خيمة تتنقل الرسامة الشابة أسيل نسمان، حاملة معها ريشتها وألوانها والقليل المتوفر من أدوات فنية، تحافظ بها على موهبة تلازمها منذ نعومة أظفارها، وتوثق بها يوميات مؤلمة وقاسية تعايشها منذ اندلاع الحرب.
تنقلت نسمان (22 عامًا) مع أسرتها في محطات نزوح كثيرة، منذ النزوح الأول من مدينة غزة إلى جنوبي القطاع، وحتى عندما عادت إلى مدينتها بعد عام من الغياب والنزوح القسري لا تزال تفتقد الأمان، ولا تأمن أن تكون في أي لحظة على موعد جديد مع النزوح نحو محطة أخرى حيث المجهول و"اللامكان".
تقول: "تجاربنا المريرة في هذه الحرب المجنونة تجعلنا نتوقع الأسوأ .. في أشد كوابيسي لم أتخيل أنني سأعيش يومًا في خيمة".
تهرب نسمان من سوداوية الواقع إلى عالم الألوان، لكنها تجد نفسها أسيرة تفاصيل الحياة من حولها، ورغم أنها ترسم لوحات من أجل بيعها وكسب المال من أجل المساعدة في توفير احتياجات أسرتها، إلا أن أساس الرسم بالنسبة لهذه الرسامة الشابة يبقى "التوثيق من أجل التاريخ".
تشير إلى أن الحرب فرضت عليها عناوين قاسية ودامية لمشاهد عايشتها أو مرت بها، كفقد الأحبة بالقتل، والحياة داخل الخيام، والجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال داخل المستشفيات ومراكز الإيواء.
وتبرز من بين لوحات كثيرة رسمتها نسمان لوحة تصور أطفالًا ارتقوا شهداء؛ جراء سياسة التجويع التي ينتهجها الاحتلال ضد زهاء مليونين ويزيد من الغزيين، جلهم نساء وأطفال، هم الضحايا الأبرز لما تصفها هذه الفنانة بالحرب المجنونة.
وفي لوحة أخرى تقول إنها "وثقت بالدموع قبل الريشة والألوان مشهدًا لأبٍ يحمل طفله الوحيد شهيدًا بنيران الاحتلال ويصرخ من شدة القهر والوجع، وفي لوحة أخرى رسمت مشهدًا ترك أثراً في نفسها لأحد شهداء مجزرة ارتكبتها قوات الاحتلال في مستشفى الشفاء بمدينة غزة.
ومن بين اللوحات التي تتذكرها نسمان بكثير من الوجع، الضحايا من النساء اللواتي ارتقين شهداء في مجزرة استهداف الخيام في منطقة "بركسات الوكالة" بمدينة رفح، وهي مخازن تابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وقد استهدفتها قوات الاحتلال بوابل من الصواريخ من دون سابق إنذار.
ولم تنس نسمان أن تخصص للأسرى مساحة في لوحاتها، وقد وثقت أثر سياسات التعذيب على الأسرى الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال من مناطق متفرقة من القطاع بعد اندلاع الحرب، وفيما استشهدت أعداد غير معلومة منهم داخل السجون نتيجة التعذيب، وتحتجز دولة الاحتلال جثامينهم، تحرر آخرون من السجن بجروح ظاهرة على أجسادهم، وأخرى غائرة في نفوسهم لن تمحوها السنين جراء ما عايشوه من أهوال، ولا يزال آلاف آخرون يتأرجح مصيرهم بين الموت والحياة.
تنظر نسمان للرسم كمهنة سامية، وتقول: "أنا كرسامة مثل المسعف والعاملين في الدفاع المدني، كلنا لنا رسالة إنسانية، هم ينقذون الأرواح، وأنا أوثق ما يرتكب بحقنا كمدنيين في غزة من جرائم مروعة، كي تبقى الذاكرة حية وكي لا تسقط هذه الجرائم مهما مرت السنين، وتبقى موثقة بأشكال مختلفة".
ورغم أن الرسم في زمن الحرب ليس سهلًا على نسمان، التي عانت من أجل الحصول على الأدوات الفنية التي تستخدمها وبأسعار خيالية، جراء الحصار الإسرائيلي المحكم وإغلاق المعابر، إلا أنها تكافح من أجل مواصلة الرسم وتوثيق يوميات الحرب.
خسرت نسمان مرسمها وضاعت لوحات رسمتها على مدار سنوات طويلة جراء تدمير شقة أسرتها السكنية بمدينة غزة، لكنها لا تزال قادرة على الحلم والأمل بغدٍ أفضل، وبعد دعواتها لنفسها ولأسرتها وأحبتها بالنجاة من هذه المحرقة، تحلم أن تنجو معها لوحاتها لتتمكن يوماً من السفر للخارج والمشاركة في معارض فنية متخصصة تعرض فيها هذه اللوحات الواقعية التي تمثل حقبة دامية من تاريخ الشعب الفلسطيني.
كاركاتير برسم الخوف والموت
وخلال الحرب، ووسط ظروفٍ معقدة، إنسانيًا وأمنيًا، امتلكت رسامة الكاركاتير الثلاثينية منال الكحلوت من الشجاعة واليقين والإيمان ما مكّنها من مواصلة العمل والإبداع في إنتاج أعمالٍ فنية رقمية وكاريكاتيرية توثق الألم، وتكشف الحقيقة، وتنتصر للضحايا وللحق الفلسطيني.
أُجبرت الكحلوت (35 عامًا) على النزوح 5 مرات، وتوضح لـ"البوابة 24" أن أعمالها خلال شهور الحرب ركزت على "الجسد الفلسطيني كرمز مقاوم، واستخدمت أدوات الفن والتصميم كأصوات بصرية في مواجهة التعتيم الإعلامي".
وفي الوقت الذي كانت فيه الكحلوت محاصرة في شمالي القطاع، يحفّها الخوف والموت، اخترقت لوحاتها "حجب القتل والحصار"، ووجدت طريقها نحو معرض الملتقى العربي للفن التشكيلي في العراق.
كما نظمت معرضًا فنيًا شخصيًا في مدينة برشلونة بإسبانيا، وتشير إلى أنها قدمت من خلال هذا المعرض تجربتها البصرية كشهادة حيّة من قلب الحرب، وأسهمت في نقل صوت غزة إلى جمهور عالمي.
كما طوّرت الكحلوت مجموعة تصاميم فنية تجارية بطلب من داعمين للقضية الفلسطينية حول العالم، وقد تم استخدامها وطباعتها على الملابس، بهدف إبقاء الذاكرة الجمعية حية، وتعزيز الحضور البصري الفلسطيني.
تقول الكحلوت: "كلنا في حالة هروب مستمر من الموت، وركض لا ينتهي نحو النجاة. نركض حتى ننسى أسماءنا أحيانًا. الظروف القاهرة لا تترك لنا مساحة للعودة إلى ذواتنا، لكننا رغم ذلك نشتاق لها. نحاول أن نتمسك بما تبقى منا، ونواجه التحديات بقلوب لم تُهزم رغم كل شيء".
وتضيف: "كفنانة ورسامة كاريكاتير، كنت أرسم ما أشعر به، ما يهز داخلي، وما يترك أثرًا لا يُمحى في ذاكرة الناس. أتذكر جيدًا أنني رسمت الكثير من الأعمال تحت أحزمة نارية، وأنا أعيش في منطقة شهدت اجتياحات وحصار وتجويع. رسمت وسط أصوات القصف والرصاص، وأنا أسمع صدى الدبابات يقترب، ليس فقط من مكاني، بل من جسدي وروحي".