أقوات الغزّيين في بطن "السوق السوداء".. وأيادٍ "خفيّة" تحدد الأسعار!

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- نور محمد:

داخل سوق الشيخ رضوان "المؤقت" شمالي مدينة غزة، كان أحد الباعة يتكئ خلف "بسطة صغيرة" رصّ عليها عدة أصناف من البقوليات والأطعمة المعلبة، وأخذ ينادي "كيلو السكر بـ 250 شيكلًا، وكيلو الحمص بـ50".

على بُعد أمتار قليلة، كان الشاب جبر محمد، وهو صاحب "بسطة صغيرة" أيضًا، يبيع ذات الأصناف، لكن ثمن كيلو السكر كان 230 شيكلًا، وكيلو الحمص بـ (43)!

يقول لـ"البوابة 24": "حصلت على هذه السلع من أحد الباعة المتجولين المارين في السوق بأسعار أرخص، لذلك أبيعها بسعر أقل"، موضحًا أن ظاهرة تضارب الأسعار بين الباعة في السوق تزداد يومًا بعد آخر، في ظل عدم وجود أي رقابة من قبل جهات مختصة على الأسواق، "فكل بائع يبيع وفق ما يراه مناسبًا" يضيف.

ويصف جبر السوق بأنه أصبح أشبه بسوق سوداء"، مؤكدًا أن الأسعار غير مستقرة مطلقًا، حيث تشهد اختلافًا في غالبية الأيام، الأمر الذي يخلق حالة من الإرباك لدى المواطنين والباعة أيضاً.

تضارب وفروق شاسعة!

في المقابل، يذكر الشاب عبد أبو ريالة، وهو صاحب "بسطة" لبيع الخضروات، أن سعر كيلو الباذنجان وصل إلى (40) شيكل، وكيلو البندورة لـ(60)، مبررًا ذلك بأنه جلبها من التاجر بسعر مرتفع.

ويبين أنه يفاجأ يوميًا بأسعارٍ جديدة مختلفة عن اليوم الذي سبقه، دون أي علم مسبق لديه، مشيرًا إلى أن حالة عدم الاستقرار التي تشهدها الأسواق تلقي بظلالها السلبية على الباعة والمواطنين الذين يتذمرون كثيرًا من ارتفاع الأسعار.

ووسط هذه الفوضى، كان المسن جمعة صالح يتجول في أرجاء سوق الشيخ رضوان، وقد بدت عليه علامات الإرهاق والتعب، كونه بات عاجزًا عن شراء مستلزمات عائلته من الخضروات والبقوليات والمعلبات بسبب الارتفاع الكبير في أسعارها.

يقول صالح، الذي يعيل أسرة مكونة من خمسة أفراد، لـ"البوابة 24": "أنا مُعطل عن العمل منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وبالكاد أستطيع توفير نقود لشراء الحاجات الأساسية لعائلتي، خصوصاً في ظل عدم توفر السيولة النقدية في القطاع".

ويضيف: "رغم أن الأسعار مرتفعة في الأسواق وتفوق قدرتنا الشرائية، إلا أننا نرى أيضًا تضاربًا في الأسعار، وهذا الأمر يزيد التعب والإرهاق لدينا"، متسائلًا بصوتٍ يملؤه القهر: "أين وزارة الاقتصاد ولجان الطوارئ الحكومية عن متابعة أسعار السلع في الأسواق؟ أصبحت الأوضاع لا تُطاق وتفوق قدراتنا".

لجنة الطوارئ الحكومية

تجدر الإشارة إلى أن لجنة الطوارئ الحكومية هي التي تتابع أوضاع سوق الشيخ رضوان بمدينة غزة، حيث تفرض رسومًا أسبوعية بقيمة 30 شيكلًا على الباعة في السوق مقابل "حجز بسطة"، لكنها لا تتابع قضية تضارب الأسعار في السوق، وفق أقوال عددٍ من الباعة.

مصدر من اللجنة قابلته "البوابة 24" -ورفض ذكر اسمه- قال: "إن اللجنة لا تقوم بأي دور له علاقة بالرقابة على الأسعار، وتكتفي بمتابعة أصحاب البسطات الصغيرة من حيث دفع الأجرة الأسبوعية التي فرضتها عليهم".

ويؤكد المصدر أن غياب الرقابة، يضع علامات استفهام حول المهام المنوطة بلجنة الطوارئ، خصوصًا أنه لا توجد أي جهات رقابية على الأسواق حاليًا.

ويتساءل: "متى ستقوم اللجنة بدورها المتعلق بمراقبة البائعين وفرض تسعيرة ثابتة؟ علماً أن الوزارة تعلن عن تسعيرة معينة للسلع المتوفرة في الأسواق بين الفينة والأخرى، لكن دون تنفيذ عملي على أرض الواقع من اللجنة لمتابعة هذه التسعيرة".

"الاحتلال يقوّي السوق السوداء"

وفي السياق ذاته، قال مصدر مسؤول في وزارة الاقتصاد –فضل أيضًا عدم ذكر اسمه– "إن الاحتلال الإسرائيلي استهدف بشكل مباشر مقرات الوزارة وموظفيها، ما أدى إلى تحييد دور الوزارة وشلّ قدرتها على متابعة الأسواق وضبط الأسعار".

وأوضح أن "الاحتلال يعمل على تقوية "السوق السوداء" من خلال تنمية شبكات الاحتكار، وتدمير المصانع الوطنية، ومنع إدخال المساعدات، إضافة إلى الإشراف غير المباشر على عمليات سرقة وتخزين المساعدات، مما يعمق من حالة الفوضى والارتباك في الأسواق".

وبيّن أن احتياجات القطاع اليومية تفوق 800 شاحنة، في حين لا تسمح "إسرائيل" بإدخال أكثر من 5% من هذه الكمية، وهو ما أدى إلى نقص حاد في السلع الأساسية، وارتفاع معدلات التضخم، لا سيما في ظل ارتفاع أسعار الوقود، الذي يعد محركًا رئيسًا لارتفاع أسعار باقي السلع.

محاولات للضبط

بدوره، أكد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة د.إسماعيل الثوابتة، أن الجهات الحكومية تتابع باهتمام بالغ مسألة تفاوت الأسعار من بائع لآخر على نفس السلعة، خاصة في ظل الأوضاع الطارئة التي يعيشها القطاع.

وأوضح لـ"البوابة 24" أنه يجري رصد هذه الظاهرة يوميًا عبر فرق التفتيش التابعة لوزارة الاقتصاد الوطني والجهات الرقابية في المحافظات، ويتم توثيق الحالات ومقارنتها بالأسعار المعتمدة ومصادر التوريد؛ للتأكد من عدم وجود استغلال أو تلاعب، "ولكن لا توجد سيطرة حقيقية." يستدرك.

وأضاف: "لمعالجة هذه الأزمة، فعلنا خطة طوارئ غير مسبوقة، حاولنا من خلالها ضبط الأسواق والأسعار والتجار. نجحنا أحيانًا ولم ننجح في أحيانٍ أخرى؛ بسبب استمرار حرب الإبادة، واستهداف الطواقم الحكومية بشكل واضح".

وأكد أن للجان الطوارئ في المناطق دور محوري من خلال التعاون مع الجهات الرقابية، ورصد المخالفات، وتوعية المواطنين، والمساهمة في تسهيل انسياب السلع وتحديد الاحتياجات الحقيقية.

وأفاد بأن الحكومة حاولت إشراك هذه اللجان عبر انخراطها في منظومة الرقابة، لتعزيز البُعد المجتمعي وضمان سرعة الاستجابة والتواصل المباشر مع المواطنين.

"أيادٍ خفية تتحكم بالأسعار"

ويتحدث الباحث في الشأن الاقتصادي، أحمد أبو قمر، عن أن الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من 20 شهرًا تسببت في تفكك النظام الاقتصادي الرسمي، وصعود غير مسبوق للسوق السوداء التي باتت تتحكم بكافة جوانب السوق المحلي، في ظل غياب الأجهزة الرقابية وتدمير البنية المؤسساتية.

وقال لـ"البوابة 24": "مع بداية الحرب طغت السوق السوداء على كل شيء، بعدما جُرّدت السوق الرسمية من دورها نتيجة الاستهداف الممنهج لمؤسسات الدولة، بما في ذلك وزارة الاقتصاد ومباحث التموين، وأجهزة الأمن المعنية بالرقابة".

وأوضح أن البضائع تُدار حاليًا من قبل "أيادٍ خفية تتحكم في الأسعار بشكل عشوائي"، مشيرًا إلى أنه "لا توجد سوق منظمة أو آلية لضبط الأسعار، ما يؤدي إلى تقلبات سعرية تصل إلى 300 أو 400% بناءً على إشاعة أو خبر، وليس بناءً على العرض والطلب".

وأشار إلى أن هذا الواقع نتاج "تشوه اقتصادي" عمقته "إسرائيل" عبر آليتين: سياسة التقطير التي حدّت من تدفق السلع، وسياسة الإغراق المحدود لسلع معينة بهدف خلق حالة من الفوضى، كما يحدث مع سلعة السكر التي يُمنع إدخالها بكميات كافية رغم ارتفاع الطلب عليها.

ولفت إلى أن "عدد الشاحنات التي سُمح بدخولها في الأشهر الأولى من الحرب لم يتجاوز 30 إلى 40 شاحنة يوميًا، مقارنة بـ450 شاحنة قبل الحرب"، موضحًا أن خمسة تجار فقط هم من يحتكرون السوق ويتم السماح لهم بإدخال البضائع.

ولم يُخفِ أبو قمر رؤيته حول ضرورة أن يكون للجنة الطوارئ الحكومية دورٌ في متابعة حالة عدم الاستقرار في الأسعار، داعيًا إلى "فتح السوق أمام الجميع كما كان قبل الحرب، والسماح بإدخال ما لا يقل عن 600 شاحنة يوميًا وفق البروتوكول الإغاثي، مع ضرورة استمرار دخول المساعدات الإنسانية التي يعتمد عليها نحو 95% من سكان القطاع".

ويبقى التساؤل المهم: إلى متى سيبقى المواطنون في قطاع غزة رهينة الشراء من السوق السوداء التي أرهقت كواهلهم على مدار أكثر من 20 شهرًا؟ وإلى متى سيبقى حراك الجهات الحكومية، وتحديدًا وزارة الاقتصاد ولجان الطوارئ الحكومية، بطيئًا إلى الحد الذي يحرم الناس قوت يومهم بسبب تحكم التجار بالأسعار كلٌ حسب رغبته.

البوابة 24