تقييد التحويلات البنكية.. أزمةٌ "إنسانية" تضرب التعاملات المالية بغزة

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

غزة/ ميسون كحيل- البوابة 24:

في إحدى خيام النزوح جنوبي قطاع غزة، جلست "رشا جبر" تمسح شاشة هاتفها، مُحاوِلَةً فهم سبب تجميد حسابها البنكي الذي كان الوسيلة الوحيدة لإدخال المال لعائلتها الكبيرة. تحكي بحسرة: "استخدمت حسابي لمساعدة إخوتي بعد أن جُمّدت حساباتهم، لكنهم أغلقوا حسابي دون تفسير".

تشير رشا بذاكرتها لآخر عمليةٍ نفذتها قبل تجميد الحساب، وتقول: "قمت بتحويل مبلغ 20 ألف شيكل لتاجر عملة، وبعدها تم إغلاق حسابي. راجعت البنك فطلبوا مني تقديم كتاب خطي لتوضيح السبب الذي من أجله حولت هذا المبلغ، وحتى اليوم لم أتلقَ ردًا".

رشا أقرت أنها سمحت لأقاربها باستخدام حسابها بعد إغلاق حساب والدها عقب استشهاده، لكنها ترى أن الظروف القاهرة خلال الحرب كانت تتطلب مرونة، لا معاقبة. تقول: "كان داخل البيت 60 شخصًا، أغلبهم لا يملكون حسابات بنكية. استخدمتُ حسابي لمساعدتهم لا أكثر. واليوم ما زال الحساب مجمدًا بلا مبرر واضح".

قصة رشا ليست استثناءً، فبينما يعيش سكان قطاع غزة ظروفًا غير إنسانية بسبب العدوان المتواصل منذ شهور، برزت أزمة جديدة غير متوقعة: تقييدات حادة على الحوالات البنكية والتحويلات الإلكترونية، فرضتها البنوك وسلطة النقد الفلسطينية.

وفي الوقت الذي افتقر فيه الناس إلى السيولة النقدية، وصَعُب فيه الوصول إلى البنوك، كان يُفترض أن تكون الأدوات الإلكترونية ملاذًا آمنًا لتيسير المعاملات، لكن الواقع كان مختلفًا. وبدلًا من أن تكون هذه الأدوات وسيلةً للتسهيل، تفاقمت المعاناة بسبب فرض سقوف منخفضة على التحويل، وارتفاع العمولة على عمليات السحب، حيث وصلت في بعض الحالات إلى 45% لكل عملية في يونيو 2025م، ما جعل استخدام هذه الوسائل عبئًا إضافيًا بدلًا من أن تكون حلاً.

طلبات توضيح و"إثبات"

"رائد" مثلًا، يدير مشروعًا صغيرًا في قطاع غزة منذ عدة سنوات، بدأه قبل الحرب المتواصلة منذ السابع من أكتوبر 2023م تقريبًا بعامين.

يعمل ضمن فريق رائد عدد من الموظفين، كانوا يتقاضون رواتبهم منه بنظام "الكاش"، قبل أن تندلع الحرب، وتغلق البنوك أبوابها وتختفي السيولة. يقول: "حينها سمعت عن المحفظة الإلكترونية، ووجدت أنها قد تكون أنسب خيارٍ بديل".

يستدرك الرجل بامتعاظ: "فوجئت بوجود سقف تحويل يومي لا يتجاوز 500 شيكل، ولا يُسمح لي بالتحويل لنفس الشخص أكثر من مرة في اليوم الواحد".

نتيجة هذه القيود، اضطر رائد إلى تقسيم الراتب الواحد على مدار عدة أيام، ما أدى إلى تأخير صرف المستحقات للعاملين لديه، وزيادة التكاليف. يعقب: "كل عملية تحويل تُخصم عليها رسوم. كُنت أُضطر لدفع رسوم تحويل ثلاث أو أربع مرات للراتب نفسه. هذا غير عادل، خاصة في ظل ندرة السيولة".

محمد الجماصي أيضًا، وهو أبٌ لخمسة أطفال من غزة، اضطر خلال الحرب إلى الاعتماد كليًا على التحويل الإلكتروني لشراء الحاجيات الأساسية. يقول: "البنوك كانت مغلقة، والسيولة في السوق شحيحة. كنا نملك المال في حساباتنا البنكية، لكن لم نكن قادرين على استخدامه بشكل حر بسبب سقف التحويل اليومي وقيود الجهات المرسلة".

اضطر محمد إلى اللجوء لوسطاء أو ما يُعرف بـ"السوق الرمادية"، حيث يقوم شخص بإرسال الحوالة نيابة عن الشخص مقابل نسبة عمولة وصلت في بعض الحالات إلى 40%. يضيف: "كنا نشتري حاجياتنا بسعر أعلى، لأننا كنا ندفع عمولات إضافية من أجل الحصول على تحويلات مالية".

يشير محمد إلى أن كبار السن، والنساء، ومن لا يجيدون استخدام التطبيقات، واجهوا صعوبات مضاعفة. "إما أن ينتظروا أيامًا طويلة لوصول الحوالة، أو أن يدفعوا نصفها كعمولة لشخص يعرف كيف يستخدم التطبيق".

وتروي "أسماء"، وهي مدرّسة لجأت للتحويلات البنكية لدعم أسرتها، تجربتها مع تقييد حركة حسابها. تقول: "كنت أستلم دعمًا ماليًا من أقاربي بالخارج بانتظام، ولكن فجأة تم تعليق حسابي البنكي ومنعي من استلام الحوالة، دون إشعار مسبق".

وأوضحت أسماء أنها توجهت للبنك لاستيضاح السبب، فطلبوا منها إثبات مصدر الأموال وأهداف استخدامها، رغم أنها عميلة معروفة منذ سنوات. تضيف: "كان الأمر مهينًا. اضطررت لانتظار أكثر من أسبوع، واضطررتُ للاستدانة لشراء الدواء والطعام".

قيود "احترازية".. أم منهجية للتجويع؟

ويقول المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر: "إن أزمة تقييد الحوالات البنكية في غزة ليست وليدة الحرب الأخيرة، بل هي امتداد لقيود فرضت سابقًا في سياق الحصار الممتد منذ نحو عقدين. إلا أن ما جرى خلال الحرب كان تصعيدًا غير مبرر، يفاقم معاناة الناس ويقوّض الثقة بالنظام المصرفي".

ويشرح أبو قمر أن "جزءًا من القيود السابقة قد يُبرَّر بالخشية من غسل الأموال أو دخول أموال غير مشروعة إلى القطاع، وهو أمر مفهوم من زاوية اقتصادية، إذ يُفترض أن تعمل الأموال ضمن السوق الرسمية بعيدًا عن الاقتصاد غير المنظّم". لكنه يؤكد في الوقت ذاته أن غالبية القيود الحالية، خصوصًا المفروضة أثناء الحرب، "لا مبرر لها سوى التضييق على الناس، وهي تأتي ضمن سياسة خنق الاقتصاد المحلي وزيادة اعتماد الناس على طرق غير رسمية لإدخال الأموال، ما يؤدي إلى توسّع السوق السوداء".

ومنذ الأسابيع الأولى للعدوان على قطاع غزة، لاحظ المواطنون تزايد الاعتماد على وسطاء غير مرخصين أو شبكات غير رسمية؛ لتحويل الأموال. سوق سوداء متسارعة النمو ظهرت كبديل للخدمات المصرفية المقيدة. مواطنون بدأوا يعتمدون على وسطاء غير مرخصين، مقابل عمولات تتراوح بين 45% و40%.

يقول سامر.ع (اسم مستعار)، وهو نازح من غزة يقيم حاليًا في خان يونس جنوبًا: "ابني حوّل لي 200 دولار من ألمانيا عبر تطبيق تحويل إلكتروني رسمي، لكن لم تصلني. حاولت مراجعة البنك، أبلغوني بأن هناك سقف للتحويل. اضطرينا نرجع نحول عن طريق وسطاء بأربعة بالمئة عمولة".

هذا المثال لا يبدو استثنائيًا، إذ تؤكد مصادر من داخل القطاع أن السوق السوداء أصبحت الوسيلة الأسرع -وإن كانت الأعلى سعرًا- للحصول على المال، وأن التطبيقات الرسمية مثل (Pal Pay) و(Jawwal Pay) لم تعد تخدم بشكل سلس.

ويتحدث أبو قمر عن مسألة السقوف السعرية المفروضة على التحويلات اليومية والأسبوعية والشهرية، خصوصًا عبر تطبيقات الدفع الإلكتروني المذكورة، فيتابع: "سلطة النقد فرضت سقوفًا يومية بحدود 500 شيكل، وأخرى أسبوعية وشهرية، من دون أي توضيح للمواطنين عن منطق هذا الإجراء، رغم أنها تدّعي دعم الشمول المالي والدفع الإلكتروني".

ويضيف: "المواطنون يفاجؤون برسائل تفيد بتجاوز الحد المسموح، رغم أن التحويلات تكون بمبالغ بسيطة. هذا يعطل حركة البيع والشراء اليومية، ويفرض على الناس البحث عن بدائل مثل استعارة حسابات أقارب أو أصدقاء".

أمام صمت سلطة النقد "من يبتلع المال؟"

ورغم الطلبات المتكررة من الصحفيين والنشطاء الاقتصاديين، لم تُصدر سلطة النقد أي بيان واضح يشرح أسباب هذه التقييدات أو طبيعتها.

وقد وثّقت معدّة هذا التقرير إرسال رسالتين رسميتين إلى سلطة النقد في يونيو 2025، تضمّنتا أسئلة محددة حول سبب فرض السقوف السعرية وآليات تقديم الشكاوى، والأسس التي استُند إليها في فرض هذه التقييدات، إضافة إلى الاستفسار عن سبب غياب أي توضيح رسمي للرأي العام.

وبعد ثلاثة أسابيع، ورد رد رسمي من سلطة النقد، إلا أنه لم يُجب بشكل مباشر عن الأسئلة الجوهرية، بل اكتفى بسرد عام لمبادرات الدفع الإلكتروني والمشاريع التقنية دون التطرق إلى مبررات فرض القيود أو مدى قانونيتها أو الجهة المسؤولة عن اتخاذ القرار. كما لم يُوضح ما إذا كانت الإجراءات مؤقتة أم دائمة، ولا ما إذا كانت ستخضع لمراجعة مستقبلًا، وهو ما يعكس غياب الشفافية في إدارة ملف مالي حساس يؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين.

كما تواصلت معدّة هذا التقرير مع جمعية البنوك في فلسطين للحصول على رد رسمي حول السياسات المتبعة، لكنها لم تتلقَّ أي رد حتى لحظة نشر التقرير.

المحلل أبو قمر يرى أن هذا الصمت جزء من أزمة أكبر: "الشفافية معدومة، ولا توجد إرادة سياسية لتعديل السياسات. الناس تُعاقَب دون أن تعرف لماذا؟!"، ويضيف: "سلطة النقد مجبرة وليست مخيرة في كثير من القرارات، بحكم تبعيتها لبروتوكول باريس الاقتصادي الموقع عام 1994م، الذي وضعها تحت مظلة رقابة بنك إسرائيل".

ويتابع: "اليوم، ترفض إسرائيل إدخال أي سيولة نقدية لغزة، وسلطة النقد تلتزم الصمت. لا يوجد توضيح ولا تواصل مع الجمهور، وهذا يفاقم فقدان الثقة بالقطاع المصرفي الفلسطيني"، وهنا تبرز مفارقة أخرى (والقول لأبو قمر)، "ففي الوقت الذي تدّعي فيه سلطة النقد أنها تشجع على الدفع الإلكتروني والشمول المالي، فإن سياساتها عمليًا تدفع الناس إلى السوق السوداء".

نشطاء على منصة "إكس" (تويتر سابقًا) تداولوا صورًا تُظهر وصول عمولات التحويل في السوق السوداء إلى 50% في بعض الأحيان، وكتب أحدهم: "صرنا ندفع على الدولار دولارين، بس عشان نشتري خبز".

كل من قابلتهم (البوابة 24) في سياق هذا التقرير، ليسوا سوى نماذج من مئات تضرروا نتيجة تجميد الحسابات أو حظر الحوالات فجأة. وتؤكد شهاداتهم أن البنوك لم تقدّم إشعارًا مسبقًا أو مبررات قانونية في كثير من الحالات.

رشا جبر مثلًا توضح: "أرسلوا لي رسالة بأن عليّ مراجعة البنك، ثم طلبوا مني كتابًا خطيًا. قدّمت كل شيء، ولا جواب حتى هذه اللحظة. ومع استمرار الغموض، تحوّل الحساب المجمّد إلى أداة ضغط لا تقل قسوة عن الحصار".

وبالعودة إلى المدرّسة أسماء، فتقول: "أشعر أنني تحت التحقيق، رغم أنني استخدمت الحوالة لشراء دواء! عوملت كمن يتلقى أموالًا مشبوهة، بينما الحوالة هي من أختي في الخارج".

المحلل الاقتصادي أبو قمر، يحذر من استمرار هذه السياسات، "حتى بعد توقف العدوان"، معلقًا بالقول: "نحن نغذي اقتصادًا موازيًا، يضعف النظام الرسمي ويعمّق الفقر والتمييز بين المواطنين".

انتهاك للحق في الحياة والكرامة

وأعلنت سلطة النقد، تحت ضغط من مؤسسات مختلفة، على رأسها الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، مؤخرًا، فتح باب الشكاوى للمتضررين. في وقتٍ نبهت فيه منظمات حقوقية بأن القيود البنكية قد ترقى إلى انتهاك للحق في الحياة والكرامة.

وقد أطلق ناشطون حملة إلكترونية بعنوان "حولوا بلا إذلال"، تطالب برفع السقوف وتحقيق الشفافية، مشيرين إلى أن "الفقر في غزة لم يعد فقط بسبب الاحتلال، بل بسبب من يُفترض أنهم حماة الاقتصاد".

هذه الأزمة وضعت تساؤلات كبرى أمام سلطة النقد وجمعية البنوك في فلسطين، في مقدمتها: من يقرر من يملك حق الوصول إلى أمواله؟ لماذا تُفرَض قيود دون إعلان أسباب؟ ومن يضمن ألا تُستخدم الحسابات البنكية كأداة للعقاب فيما بعد؟

ومع تفاقم التعاملات المالية في السوق السوداء، لا يبدو أن هناك من يملك خطة واضحة للخروج من هذه الفوضى المالية. في زمن الحرب، يصبح الصمت الرسمي جريمة، ويُصبح كل إجراء "احترازي" بلا مساءلة.. فعلًا عدوانيًا بحق المطحونين وسط المقتلة.

توصيات اقتصادية لمعالجة أزمة التحويلات في غزة

طالب المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر سلطة النقد الفلسطينية باتخاذ ما يلزم من إجراءات عاجلة للتخفيف من التقييدات المالية المفروضة على المواطنين في قطاع غزة، ولا سيما في ظل الحرب، مشددًا على ضرورة تسهيل التحويلات البنكية والمعاملات عبر المحافظ الإلكترونية، والابتعاد عن السياسات التي تُضعف القدرة الشرائية وتعطل الحياة اليومية.

ودعا أبو قمر إلى الانفتاح على تساؤلات المواطنين وتقديم توضيحات شفافة بشأن أسباب فرض السقوف السعرية اليومية والأسبوعية، بدلًا من التزام الصمت، مؤكدًا أن غياب التفسير الرسمي يعمق حالة فقدان الثقة بالنظام المالي.

كما شدد على أهمية إعادة النظر في هذه التقييدات التي تتناقض مع شعارات الشمول المالي، وطالب بضرورة الضغط على الجانب الإسرائيلي للالتزام باتفاقياته المالية، والعمل على فك التبعية المصرفية التي تعمّق الأزمة وتمنع تطبيع الحياة الاقتصادية في القطاع.

البوابة 24