غزة/ مرح الوادية:
"وُلدت وردةً متفتحة، أزهرت بابتسامة نقية كأنها تبشّر بالفرح. ملأت الدنيا دفئًا، وصار للحياة طعمٌ أحلى مع جنان"، هكذا وصفت أمٌ اللحظات الأولى لقدوم طفلتها إلى العالم. لكن الحياة التي بدأت بالضحك والضوء، ما لبثت أن اختنقت تحت ركام الحصار والمجاعة: ذبُلت الوردة، ثم قُطفت غضّةً قبل أن تتفتّح وترى نور هذا العالم.
كانت جنان إسكافي، أو "وردة البستان" كما تصفها أمها، واحدة من ضحايا سياسة التجويع التي تفتك بأكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة، حيث تحولت الطفولة إلى معركة مع الجوع والموت، دون طعام أو دواء أو سبيل للنجاة.
بدأت القصة برضاعة طبيعية. كانت الأم تحاول أن تُشبِع جنان بما تستطيع، لكن الحرب كانت أقسى من أن تترك للأمهات طاقة. تقول الأم: "جفّ الحليب من صدري، لم تعد طفلتي تشبع مهما أرضعتها، وكنت أراها تضعف بين ذراعي".
مع تدهور الحالة الصحية للرضيعة، راحت الأم تجوب المستشفيات بحثًا عن نجاة. كان الأطباء يرددون كلمات في أذنها كأنها طعنات: "جفاف، سوء تغذية، انخفاض في السكر، ضغط متدنٍ، حموضة في الدم، غازات سامة، واعتماد على الأجهزة". لم تكن هذه مجرد تشخيصات طبية، بل إشارات متسارعة إلى أن الحياة تنسحب من جسد جنان الصغير.
ثمانية أيام قضتها على المحاليل الوريدية داخل المستشفى، ثم بدأت رحلتها نحو النهاية. كانت أمها تراقب وجهها كل لحظة، تبحث عن علامة أمل، عن نفس منتظم، عن حركة خفيفة تخبرها أن الصغيرة ما زالت تقاتل للبقاء.
"وصل السكر لديها إلى 13، والمفترض أن يكون قرابة 90. كانت تتنفس على الأجهزة ولا تقدر حتى على البكاء"، تروي الأم بنبرة تشي بالعجز أكثر مما تنقل الحزن. وفي لحظة لم تكن مفاجئة بقدر ما كانت قاسية، توقفت أجهزة المستشفى عن إصدار الأصوات، وسُجلت وفاة جنان في الثالث من نيسان/ إبريل 2025م.
قبل رحيلها بأربعة أيام، لم تتناول الطفلة سوى الماء. "كانت تنظر إليّ وكأنها تستغيث: أنقذيني يا أمي"، تقول والدتها وهي تضعف أمام ذاكرتها، "لكنني لم أستطع فعل شيء. كنت أراها تموت أمامي، وقلبي يأكلني كلما رأيت طفلًا آخر جائعًا".
رغم الألم، لا تتوقف أم جنان عن الحديث عنها. لم تعد القصة عن طفلة رحلت فقط، بل عن شهادة حية ضد الحرب، عن صوت أم يصرخ نيابة عن كل الأطفال الذين لا يجدون ما يسد رمقهم. تقول: "حبيبتي جنان شهيدة المجاعة والحصار والخوف، شهيدة الدخان والغبار، ذاقت الموت ولمسته مرات، وقُصفت دون ذنب، كغيرها من أطفال غزة الصائمين قسرًا".
جنان لم تكن سوى واحدة من مئات القصص التي تُكتب بالألم في غزة. صوتُها الصغير خَفَت، لكنه ترك رجع صداه في صدر أمها، التي لا تزال ترجو أن يستيقظ ضمير العالم على وقع فاجعة طفلتها: "أنقذوا من تبقّى، قبل أن يُطفأ نورهم أيضًا".