مندوبٌ يوزّع ومحرومٌ يتساءل: من يراقب سلطة "الواسطة" في مخيمات النزوح؟

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

غزة/ البوابة 24- دعاء شاهين:

في ليلٍ ثقيل خرق سكونه صوت القصف، كانت "أم مهند" تحاول إقناع رضيعها بأن كوب الماء كافٍ لكتم جوعه. جلست في ركن خيمتها المتواضعة بمخيم دير البلح، لا تملك سوى الانتظار، إلى أن وصلها خبرٌ عن توزيع مساعدات سري، تم في غفلة من أعين النازحين. تسللت إلى قلبها شعلة أمل، سرعان ما تلاشت مع بزوغ شمس يومٍ جديد، إذ اصطدمت بجملة مألوفة من المندوب المسؤول: "انتظري دورك."

"لم تكن تلك المرة الأولى" تقول الأرملة والأم لخمسة أطفال، شارحةً كيف باتت عبارات "الدور"، و"الأولوية للحالات الصحية"، بمثابة حاجزٍ حديديٍّ يفصلها عن الغذاء.

وتضيف: "أعيش ظروفًا قاسية، الأسعار جنونية، ولا معيل لنا. كلما حاولت شراء حاجيات أطفالي أجد نفسي عاجزة".

تطرح أم مهند، تساؤلاتٍ تحمل وزن جوعٍ لا يُقاس: "متى يأتي دور الأطفال؟ رضيع لا حليب له، ولا حفاضات. أضطر لاستخدام القماش بدلًا منها."

دون توصيف قانوني

من بين ملامح الأزمة الإنسانية في غزة، ظهر ما يُعرف بـ"مندوبي المخيمات" كشخصيات غير رسمية تمثل حلقة الوصل بين النازحين والجهات المانحة، دون توصيف قانوني، ودون رقابة واضحة. هم أفراد – تطوعوا، أو جرى اختيارهم– وباتت أسماؤهم مفتاحًا للمساعدات، وأحيانًا بوابةً مغلقة أمام الأكثر احتياجًا.

تعزز شهادة أم مهند شكوكًا واسعة حول طريقة انتقاء المستفيدين، إذ توضح أنها توسلت للمندوب ليؤمن لها فقط ثمن حفاضات، لكنها قوبلت بالنفي والتجاهل، رغم علمها –كما تؤكد– أنه "على تواصل دائم مع جمعيات خيرية"، وأنه يساعد من "يعرفهم فقط أو من لهم قرابة به".

وتتساءل: "هل أصبح الغذاء يُمنح بالواسطة؟ هل يعقل أن يُحرم طفل من الحليب لأنه لا يملك من يوصي بخصوصه؟".

اتهامات متزايدة طالت مندوبي المخيمات، بعضها يفيد بأن توزيع المساعدات يتم "في أوقات غير معلنة"، وغالبًا "لذوي القربى أو المعارف". بينما يبقى الذين بلا واسطة في طابور انتظار لا يتحرك، ووعود تتكرر بلا أثر. فالقضية، على حد تعبير بعض النازحين، لم تعد نقصًا في الموارد فقط، بل غيابًا للعدالة، والمساءلة.

مساعدات مشروطة

وليد الزعانين (50 عامًا)، نازح من بيت حانون، شمالي قطاع غزة، إلى الزوايدة في الوسطى منذ أكثر من عام، يروي قصة أخرى تتقاطع مع ألم أم مهند، لكن من زاوية مختلفة. يقول: "أُعيل ثمانية أفراد بينهم ابني من ذوي الإعاقة. أعمل سائق تاكسي بالإيجار، وفي أغلب الأيام لا أعود بشيء".

في الشتاء، جرفت الأمطار خيمته، فبات ينام على الأرض. طلب من المندوب بطانية أو خيمة، لكنه تلقى جوابًا لاذعًا: "أنت صاحب مهنة، اشترِ بطانية!"

المشهد لم يتوقف عند ذلك. تلقى وليد مساعدة من صديق خارج المخيم، وقد تواصل الأخير مع المندوب ليُدرج اسمه ضمن قوائم المستفيدين، فجاءه الرد مشروطًا: "عليه (يقصد وليد) أن يدفع أجرة مواصلة كي أحضر له الطرد الغذائي".

يخبرنا: "لم أكن أملك المبلغ في تلك اللحظة، ورفض أن يُسجّلني دون أن أدفع"، متسائلًا: "لماذا أدفع لأحصل على حقي؟ التوزيع يجب أن يتم أمام خيمتي مثل باقي الناس". لم يدفع، ولم يحصل على شيء.

"بدافع المسؤولية"

وبينما يزداد الضغط، ويشتد الجوع، يزداد أيضًا حضور المندوب كشخصية محورية في حياة النازحين، رغم كونه – كما يقول عبد الله سعيد- وهو أحد المندوبين، مجرد عمل "تطوعي"، لا يحمل صفة رسمية، وليس عليه أجر. "نحن فقط نعمل بدافع المسؤولية المجتمعية" يعقب.

يؤكد عبد الله أن المساعدات تصل من مؤسسات محلية أو دولية، أو من مبادرات فردية، وهنا يُبلّغ المندوب بعدد الطرود، فيبدأ بإعداد القوائم وفق معايير تشمل، "عدد أفراد الأسرة، ووجود مرضى، أو أطفال، أو ذوي إعاقة".

في الوقت ذاته، يقر بأن الكميات قليلة، والحاجة كبيرة، ما يضطره –حسب قوله– إلى "اتخاذ قرارات حاسمة قد تُشعر البعض بالظلم".

وينفي عبد الله تمامًا وجود واسطة أو تفضيل شخصي، مشيرًا إلى أن "الانطباعات السلبية تنبع من فقر الموارد، لا من فساد"، غير أنه يلمّح إلى ضغوط يتعرض المندوب لها من بعض العائلات "ذات الارتباط بجهات أو تيارات تطالب بحصصها"، ما يصعّب عليه عمله في ظل "غياب مرجعية تنظم آلية التوزيع."

"التنمية": لا نعينهم ولا نشرف عليهم

وإزاء هذه الفوضى التنظيمية، تتنصل وزارة التنمية الاجتماعية بغزة من أي مسؤولية في اختيار مندوبي المخيمات أو الرقابة عليهم. وتؤكد المتحدثة باسمها عزيزة الكحلوت، أن الوزارة "لا تعيّن المندوبين، ولا تشرف عليهم، بل تكتفي بإرسال فرق ميدانية لرصد الأوضاع وتحديث قاعدة البيانات الخاصة بالنازحين، التي تعتمد في جزء منها على القوائم التي يزودنا بها المندوب."

تعترف الكحلوت بأن الوضع أكثر تعقيدًا مما يبدو، فالمعابر مغلقة، والبرامج الإغاثية "مجمّدة"، ما يجعل الاستجابة لاحتياجات النازحين محدودة للغاية. وتضيف: "نعمل على تدقيق القوائم، ومتابعة آلية التوزيع، لكن الحصار الخانق يجعلنا غير قادرين على تلبية الاحتياجات، حتى في حدّها الأدنى."

وسط هذا المشهد، تبرز أسئلة ثقيلة: من يراقب من؟ ومن يُنصف من لا صوت لهم؟ في غزة، حيث الحرب لا تنام، والعدالة ترتدي خيمة مثقوبة، لا تزال أم مهند تحتضن رضيعها وتحاول إسكاته بكوب ماء، فيما المندوب يوزّع، والمحرومون يتساءلون.

البوابة 24