السندات السيادية: خيار استراتيجي لكسر حصار المقاصة وإنقاذ الاقتصاد الفلسطيني

بقلم:محمد جمال صوالي مراقب للسياسات الدولية غزة – فلسطين

تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية تحدياً مالياً وجودياً، تتشابك فيه الضغوط السياسية المتمثلة في سياسة الاحتجاز الإسرائيلي الممنهج لأموال المقاصة، مع تحديات بنيوية تتعلق بتراجع الدعم الخارجي وضرورة تطوير أدوات تمويل ذاتي قادرة على الصمود. إن هذه الأزمة، التي تلقي بظلالها الثقيلة على أكثر من 135 ألف موظف عمومي وعلى استقرار السوق بأكمله، تستدعي وقفة جادة من صانعي القرار، وعلى رأسهم وزارة المالية وسلطة النقد، لتبني رؤية اقتصادية جديدة تتجاوز إدارة الأزمة نحو تحقيق الاستقلال المالي المنشود. إن حجز إسرائيل لمبالغ ضخمة من أموال المقاصة، والتي بلغت حتى أغسطس 2024 ما يقارب 7.26 مليار شيكل، لم يعد مجرد إجراء عقابي مؤقت، بل تحول إلى سياسة استنزاف مالي حرمت الخزينة العامة من حوالي 65% من إيراداتها الشهرية. هذا الإجراء، الذي يستهدف بشكل مباشر مخصصات حيوية، قد شلّ قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها الأساسية، وعلى رأسها صرف الرواتب بانتظام، مما أدخل المالية العامة في حالة من العجز شبه الدائم. وللتعامل مع هذا الواقع، تم اللجوء بشكل مكثف إلى الاقتراض من القطاع المصرفي المحلي، حيث وصلت الديون المستحقة للبنوك إلى 6.42 مليار شيكل حتى فبراير 2025، وهو حل مؤقت لا يعالج جذور المشكلة، بل يؤجلها مع تراكم الفوائد، ويدفع الاقتصاد الوطني نحو دائرة خطيرة من الاقتراض العاجز. إن الأثر الأعمق لهذه الأزمة يظهر في حياة الموظف العام، الذي أصبح يعاني من تآكل دخله بفعل سياسة صرف الرواتب الجزئية المتبعة منذ نوفمبر 2021، والتي خلقت ديوناً متراكمة على الحكومة لصالح موظفيها تتجاوز 7.5 مليار شيكل. هذا الوضع لم يثقل كاهل الموظفين فحسب، بل أضعف القدرة الشرائية في المجتمع، وفاقم من حالة عدم اليقين الاجتماعي، وهو ما يتطلب تحركاً عاجلاً لا يقتصر على تدبير السيولة، بل يهدف إلى إعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته. من هنا، لم يعد الحديث عن أدوات تمويل مبتكرة ترفاً فكرياً، بل ضرورة استراتيجية. ويبرز في هذا السياق خيار إصدار "سندات سيادية" كأداة مالية سيادية بامتياز، قادرة على تحويل دفة الاقتصاد من الاعتماد على المساعدات المشروطة والحلول المؤقتة، إلى الاعتماد على الذات وبناء ثقة المستثمرين. إن السندات السيادية، بوصفها أوراقاً مالية تلتزم الدولة بسدادها، لا توفر تمويلاً مستداماً للمشاريع الحيوية وسد العجز فحسب، بل تمثل أيضاً إعلاناً عن مرحلة جديدة من الشفافية والحوكمة المالية الرشيدة. إن نجاح هذا الطرح الوطني يتطلب من وزارة المالية وسلطة النقد وضع إطار تشريعي وتنفيذي محكم، يحدد بوضوح آليات الإصدار، ومصادر السداد، وأوجه إنفاق العائدات، بما يطمئن المستثمر المحلي والأجنبي. كما أن بناء شراكات استراتيجية مع مؤسسات تمويل عربية وإقليمية لضمان هذا الإصدار أو المشاركة فيه، سيوفر دعماً حيوياً ويعزز من فرص نجاحه. إن تبني هذا الخيار، ضمن رؤية وطنية متكاملة لترشيد الإنفاق وتعزيز الجباية المحلية، لا يمثل حلاً لأزمة الرواتب فحسب، بل هو خطوة تأسيسية نحو بناء اقتصاد وطني مرن ومستقل، يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة والسوق على أسس من الثقة والمسؤولية المشتركة.

البوابة 24