"إبادة جغرافية".. الحُطام يعيد رسم ملامح "غزة"!

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- محمد أبو دون:

لم يكن أدهم عياد، ابن حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، يتوقع أن يفقد كل صلة بمكان وُلد فيه وعاش 31 عامًا، إلى أن عاد إليه في الحادي والثلاثين من يوليو/تموز، بعد انسحاب جزئي للجيش الإسرائيلي من المنطقة التي اجتاحها برًا لأشهر طويلة.

وقف هناك، لكن الشوارع التي حفظها عن ظهر قلب بدت له غريبة تمامًا، كأنها ليست نفسها. "المكان مأساة"، يقول، "الدمار لا يوصف. الاحتلال لم يترك شيئًا على حاله، لا شارع، لا منزل، لا محل تجاري، كل ما عرفناه اختفى. لم يبقَ حجر فوق حجر" يضيف.

كانت صدمة أدهم أكبر حين وقف في النقطة التي يفترض أن تكون فيها بناية عائلته ذات الخمسة طوابق. لم يجد لها أثرًا. لم يتعرف حتى على موقعها. "كل الطرق التي كنت أمر بها في حي الشجاعية أصبحت مجرد أطلال. لا وجود للمعالم التي نعرفها" يعقب الرجل بحرقة، وقد غلبته الحيرة، لا لشيء إلا لأنه فقد البوصلة في قلب المكان الذي كان جزءًا من ذاكرته.

من أعلى، يرى أدهم غزة وقد تحوّلت إلى لوحة سوداء باهتة. "كنتُ أحب متابعة أحياء القطاع عبر الخرائط الإلكترونية، كانت غزة من السماء جميلة. أما الآن، فهي على الأرض ومن السماء كومة ركام".

"تطهير مكاني ممنهج"

في جباليا شمالي القطاع، يتكرر المشهد، وإن اختلفت تفاصيله. صهيب المدهون (40 عامًا) لم يغادر المخيم الذي عاش فيه عمره كلّه، حتى في ذروة العدوان. آثر البقاء، أو على الأقل التمسك بمسافة قريبة منه.

يقول: "قلبي معلق بالمكان"، لكنه حين تجوّل فيه مؤخرًا، لم يجد فيه ما تعلّق به. كل ما كان يشكّل المخيم، من الأسواق إلى الأزقة والمحال والمنازل، أُزيل من الوجود. "سوق جباليا الكبير، الذي كان يعج بالحياة، أصبح اليوم كومة ركام ورمال" يردف.

ما يراه صهيب ليس مجرد دمار مادي، بل مسٌّ مباشر بالذاكرة الجمعية. "الاحتلال يعرف جيدًا قيمة الارتباط الوجداني بالمكان، ولهذا يعمد إلى محوه. لكنه رغم ذلك، لن يتمكن من انتزاع انتمائنا، حتى لو صار المخيم رمادًا".

أكثر من 500 منزل في الحي الذي يسكنه صهيب دُمّر بالكامل، كثير منها كان متعدد الطوابق. ويصف ما يراه بأنه "صورة مهولة لا يستوعبها العقل، كل الشوارع تحولت إلى ركام. حتى الذي عاش هنا عمره كله لن يعرف المخيم بعد اليوم".

"تحول في النسيج العمراني"

الدمار لم يأتِ صدفة، وفق ما يؤكده الخبير الجغرافي حسام حمدان، بل هو تطهير مكاني ممنهج. "الهجوم على غزة من الجو والبر والبحر خلال شهور الإبادة لم يترك شيئًا دون أن يحوّله إلى رماد"، يقول.

ويضيف لـ"البوابة 24": "ما حدث سابقة تاريخية في المنطقة العربية. لم تتعرض أي مدينة لهذا الحجم من التغيير الجغرافي والبيئي والبشري".

تظهر معالم هذا التغيير بوضوح في صور الأقمار الصناعية، وفقًا لحمدان. "الخرائط الفضائية الحديثة ترصد تحوّل النسيج العمراني بالكامل. أحياء بأكملها أُبيدت، وتحولت إلى مساحات رمادية خالية من أي حياة. وكأنهم يعيدون رسم خريطة غزة بالحطام"، يشرح.

لكن الخطر لا يكمن في حجم الدمار وحده، بل في الرمزية. "محو مخيم جباليا، على سبيل المثال، يعني محو الذاكرة الجمعية للاجئين في الشمال"، يقول، مشيرًا إلى أن ما يجري يستهدف الخريطة العاطفية والوجدانية للسكان، تمامًا كما يستهدف منازلهم.

البوابة 24