غزة/ البوابة 24- محمد أبو دون:
اليوم، بتاريخ الثالث عشر من آب/ أغسطس للعام 2025م، أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة، وفاة الطفل مدحت قديح، البالغ من العمر 10 سنوات، متأثرًا بإصابته بفايروس "جي بي أس"، أو متلازمة "غيلان باريه"، الذي بدأت أخباره تزحف بثِقل على صدور المنهكين تحت نيران الإبادة.
مدحت، أول حالةٍ تقتلها "المتلازمة" جنوبي القطاع، لكنها الرابعة بعد ثلاثٍ أُخرى طعنتها الحرب ألف مرة، قبل أن تموت بنفس المتلازمة في شماله! وهو واحدٌ قضى من بين عشرات يحاولون مقاومته على أسرّة المرض في مستشفيات غزة.
داخل مستشفى الرنتيسي للأطفال غربي مدينة غزة، وعلى سريرٍ متهالك، يرقد الصغير سيف أبو وردة، ابن الثمانية أعوام، يحدّق في الفراغ بعينين ذابلتين، وقد أرهق جسده النحيل مرضٌ يسمع عنه أهالي القطاع لأول مرة: متلازمة "غيلان باريه".
أصابه المرض منذ أسابيع، في وقت لا يملك فيه القطاع أي فسحة للعلاج، وسط حرب إبادة تطحن الناس منذ ما يقارب 22 وشهرًا.
سيف، الذي كان يركض قبل أيام في أزقة الحي، صار عاجزًا عن تحريك أطرافه. جسده في استسلامٍ تام، أنفاسه متقطعة، ولقمة الطعام غدت حملًا ثقيلًا يعجز عن ابتلاعه. والده، كمال أبو وردة، يقف قربه طوال النهار، يتأمل وجهه الصغير، يبحث عن أي بريق أمل. يقول بصوت مخنوق: "المرض هذا يهاجم الجسد كله، يرخّي المفاصل، حتى التنفس صار عليه صعب، ونُقل للعناية المركزة".
ويزيد الأب بأسى: "الأطباء قالوا إنه مرض نادر في غزة، لكن الحرب جعلت الحصول على علاجه أمرًا شبه مستحيل. حتى الأجهزة الطبية التي يحتاجها غير متوفرة. كل ما أقدر عليه هو أن أظل بجواره وأدعو الله". يخشى الرجل أن تتدهور حالة طفله فجأة، وأن يختطفه الموت كما خطف كثيرين قبله.
سيف ليس وحده. وزارة الصحة في غزة أعلنت في الأسابيع الأخيرة عن إصابات جديدة بالمتلازمة، وأطلقت تحذيرات من خطورتها على الأطفال، خاصة مع غياب العلاجات والأجهزة القادرة على التعامل مع هذه الحالات.
بيئة أنهكها الحصار
الطبيب أيمن أبو رحمة، مدير الطب الوقائي بالوزارة، أكّد أن ما يجري يدعو للقلق، قائلًا: "لاحظنا ارتفاعًا في أعداد الإصابات بين الأطفال، وهذا أمر خطير".
وشرح أن الفحوصات كشفت عن فيروسات تؤدي إلى انتشار المتلازمة، في بيئة أنهكها الحصار ونقص في كل مقومات الحياة الصحية، محذرًا: "إذا استمر هذا الوضع، فانتشار المرض سيكون واسعًا".
الأرقام ثقيلة: خلال الشهرين الماضيين وحدهما، سُجّلت 64 إصابة بـ "غيلان باريه" و"الشلل الرخو الحاد"، مقارنة بأربع أو خمس حالات فقط في العام قبل الحرب. ثلاث وفيات على الأقل أُضيفت إلى القائمة، فيما يشكل الأطفال دون الخامسة نحو 80% من المصابين.
اضطراب نادر
أما الطبيب منير البرش، المدير العام لوزارة الصحة، فيصف المتلازمة بأنها اضطراب نادر يهاجم فيه جهاز المناعة الأعصاب الطرفية. ويقول: "تبدأ الأعراض عادة بوخز وضعف في القدمين والساقين، ثم تصعد نحو الذراعين والجذع، وقد تنتهي بشلل كامل في الحالات الشديدة.
"أحياناً"، يضيف البرش، "تبدأ العلامات في الذراعين أو الوجه، ومع تقدم الحالة يصبح الشلل تامًا".
وفي ممر المستشفى، يبقى كمال أبو وردة متشبثًا بسرير طفله، يهمس له بأحلام العودة إلى البيت، واللعب كما كان، وكأن الكلمات وحدها يمكن أن تعيد لجسد صغير قوته، أو تهزم مرضًا غريبًا، حلَّ ضيفًا ثقيلًا في زمن الحرب.