غزة/ البوابة 24- بسمة أبوناصر
في بيتها الهادئ غرب مخيم النصيرات، كانت آية عليان، 55 عامًا، أمًا لخمسة أبناء، تعيش حياةً عائلية دافئة يملؤها صوت الأبناء وضحكات الأحفاد، وتغمرها أجواء الألفة والطمأنينة.
تقول آية بصوت يختلط فيه الحنين بالفقد: "كانت علاقتنا مع أبنائنا مبنية على التفاهم والصراحة، نمنحهم الحرية في دراستهم واختياراتهم، ونثق بهم ونحترم قراراتهم. علاقتي بأحفادي كانت عميقة، خاصة مع عبد الرحمن، لأنه أكبرهم سنًا".
لكن في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومع اشتداد الحرب على غزة، ومع إعلان الاحتلال ضرورة نزوح السكان جنوبًا، أصبح بيت آية ملاذًا لعائلتها الممتدة. لجأ إليها والداها وإخوتها وأقاربهم، حتى احتضن المنزل 55 روحًا تبحث عن الأمان.
إلا أن فجر 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قلب المشهد رأسًا على عقب؛ إذ سقطت القذائف على البيت، وحولت حياة مليئة بالحب إلى كومة من الركام. كان مشهدًا صادمًا ترك آية تواجه شعورًا عميقًا بالخوف والقلق على أحبائها، حيث رحل العديد من الأبناء والأحفاد والوالدان والإخوة، مما أثر بشكل كبير على حياتها النفسية والجسدية.
تستعيد آية تلك اللحظة المروعة: "بعضهم لم نجد له أثر، وبعضهم تحلل جسده حتى لم نعرفه… كأنهم ذابوا أو تبخروا ولم يعد لجثثهم وجود."
تستكمل: "كنت أستيقظ عادة قبل الفجر، لكن تلك الليلة بقيت نائمة. لكن فجأة شعرت بثقل على جسدي، لم أستطع الحركة أو التنفس، أدركت أنني تحت الردم. ثم فقدت الوعي، وحين فتحت عيني وجدت نفسي في المستشفى، علمت حينها أن عائلتي لم تعد موجودة".
في مستشفى العودة، وجدت نفسها وسط الجثامين تبحث بعيون منهكة عن أي وجه حي. تقول: "تعرفت عليهم واحدًا واحدًا، حتى فقدت القدرة على العدّ. كنت أردد في داخلي: الله أعطانا إياهم بلا حول منا ولا قوة، واستردهم بلا حول منا ولا قوة".
الناجية آية حملت معها جراحًا جسدية وروحية: كسور في القفص الصدري، خلع في الكتف، حروق وكدمات. بعد أيام من العلاج في غزة، نُقلت إلى مصر، ثم إلى تركيا لاستكمال رحلة العلاج، بينما بقي قلبها في المكان الذي دفنت فيه ذكرياتها وحياتها.
تعيش آية على فتات ذكرياتها، تبحث عن ملامح أحبابها في وجوه الغرباء. تقول: "أرى رجلاً فأظنه يشبه أخي محمود، وآخر يلبس كما كان يلبس ابني مجد، وأسمع صوتًا فأظنه صوت أبي. هكذا تمر بي الأيام، وتزحف بي الدقائق، وهذه الذكريات هي الأكسجين الذي أتنفسه لأواصل الحياة."
ولمواجهة آثار هذه الصدمة، يشرح الدكتور درداح الشاعر، أستاذ علم النفس، أن كبار السن في ظروف مشابهة يكونون في حالة ضعف شديد، مع مشاعر القلق والخوف من المستقبل، تتفاقم عند فقدان السند.
ويضيف: "غياب الدعم يزيد من شعورهم بالعزلة والاكتئاب، وقد تنتابهم أفكار سلبية تصل أحيانًا إلى الرغبة في إنهاء الحياة، ووجود أشخاص داعمين يخفف من حدة هذه المشاعر ويساعد على استعادة بعض التوازن".
ويؤكد الشاعر: "الحزن لدى كبار السن مرتبط بمستوى الإدراك والعمر. فالشاب يشعر أن أمامه وقتًا لاستكمال حياته، أما كبار السن فيميلون للاعتقاد بأنها نهاية الطريق".
ويشير إلى أهمية دور الأسرة والمجتمع في توفير الرعاية، من خلال تلبية الاحتياجات المعيشية والصحية والنفسية، أو عبر مؤسسات تقدم برامج ثقافية واجتماعية ورياضية لتخفيف وطأة الصدمة.
في هذا السياق، توضح الأستاذة عزيزة الكحلوت، المتحدثة باسم وزارة التنمية الاجتماعية، أن ملف كبار السن لم يُدرج رسميًا ضمن خطة الطوارئ، لكن الوزارة تواصل تقديم خدمات عبر المرشدين الميدانيين، تشمل المتابعة الصحية، وتوفير الأدوية والحفاضات الطبية، والأدوات المساندة مثل العكازات والكراسي الكهربائية، إضافة إلى مساعدات تموينية وإعادة تأهيل بعض المنازل ومراكز الإيواء.
وتشير الكحلوت إلى أن النزوح المتكرر وصعوبة الوصول إلى كبار السن، إلى جانب نقص الأدوات المساندة وإغلاق المعابر، من أبرز التحديات، خاصة مع تقليص أعداد المرشدين الميدانيين.
وتوضح أن التعاون مع جمعيات محلية، مثل مركز هولست الثقافي ودار الوفا لرعاية المسنين، يهدف لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، مؤكدة أن تحسين أوضاع هذه الفئة يتطلب إدراجهم ضمن خطة الطوارئ وزيادة الدعم الصحي والمادي.
وتكشف الكحلوت أن نحو 60% من كبار السن في غزة فقدوا كامل أسرهم خلال الحرب، ما يجعل رعايتهم مسؤولية إنسانية عاجلة.
تجلس آية اليوم بين الغربة والذاكرة، تبحث عن ملامح أحبّتها في وجوه المارة، وتسمع أصواتهم في صدى غرباء لا تعرفهم. تقول بصوت متهدّج: "أرى رجلاً فأظنه يشبه أخي محمود، وآخر يلبس كما كان يلبس ابني مجد، وأسمع صوتًا فأظنه صوت أبي… هكذا تمر بي الأيام، وهذه الذكريات هي الأكسجين الذي أتنفسه لأواصل الحياة."