بقلم:المحامي علي أبو حبله
قرار سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلغاء إجراءات التسوية في مناطق (ج) ليس مجرد خطوة إدارية بل هو أخطر ما يواجه الشعب الفلسطيني اليوم لأنه يستهدف نزع الأساس القانوني للملكية الفلسطينية ويفتح الباب أمام السيطرة الاستيطانية المنظمة عبر أدوات قانونية شكلية يفرضها الاحتلال. الأرض هي جوهر السيادة وإلغاء التسوية يعني فعلياً شطب أي إمكانية للفلسطيني أن يُثبت ملكيته بعقود رسمية أو أن يستصدر سندات طابو ويتركه في مواجهة آلة استيطان تستند إلى محاكم الاحتلال وإلى ادعاءات باطلة بتحويل الأراضي إلى “أراضي دولة” أو محميات أو مناطق عسكرية مغلقة. الأرقام تؤكد خطورة ما يجري. فحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2017) تشكل مناطق (ج) نحو 59.6% من مساحة الضفة الغربية مقابل 17.7% لمناطق (أ) و18.4% لمناطق (ب). محافظة طولكرم وحدها تقع 41.3% من مساحتها ضمن مناطق (ج) بينما ترتفع النسبة في قلقيلية إلى 72.6% وسلفيت إلى 74.8% وأريحا والأغوار إلى 88.3% ورام الله والبيرة إلى 64.4% ونابلس إلى 43.4% والخليل إلى 46.6% والقدس إلى 70%. هذه النسب تعني أن السيطرة الفعلية على غالبية أراضي الضفة الغربية هي بيد الاحتلال وأن أي قرار بإلغاء التسوية يفتح الباب لمصادرة مئات آلاف الدونمات. في محافظة طولكرم يظهر الخطر جلياً إذ إن نحو 24 تجمعاً سكانياً في المنطقة (ج) يضم أكثر من 17 ألف نسمة وفق تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. هذه التجمعات تشمل قرى وبلدات مثل نزلة عيسى ونزلة الشرقية وقفين ودير الغصون وبلعا وزيتا وفرعون وباقة الشرقية وهي كلها محاصرة بجدار الفصل العنصري أو مصنفة مناطق (ج). المزارعون في هذه المناطق لا يستطيعون استصلاح أراضيهم بحرية ولا بناء منازل جديدة ولا الحصول على تراخيص للبنية التحتية. كثير من أراضيهم معزولة خلف الجدار وتحتاج إلى تصاريح موسمية للوصول إليها وغالباً ما تُمنع تلك التصاريح أو تُقيّد. تقرير “أريج” أشار إلى أن الجدار يعزل نحو 705 كيلومترات مربعة أي حوالي 12.5% من مساحة الضفة الغربية ومعظم هذه الأراضي زراعية عالية الخصوبة. إلغاء التسوية يجعل هذه الأراضي عرضة لإعادة التصنيف تحت بند “أراضي دولة” أو لمشاريع استيطانية قائمة ومخطط لها مثل مستوطنة “أفني حيفتس” التي تبتلع أراضي رامين وكفر اللبد وبلعا. تقارير “بتسيلم” و”أوتشا” توثق أن معظم مسار الجدار في طولكرم يرافقه نظام بوابات عسكرية صارم يتحكم بمصير الأراضي الزراعية ويمنع تطوير أي مشاريع فلسطينية في تلك المناطق. هذه الحقائق تكشف أن القرار الإسرائيلي ليس إجراءً فنياً بل أداة ضم تدريجي لمناطق (ج) وضرب لأساس الدولة الفلسطينية المستقبلية. الأخطر من ذلك هو صمت أو تجاهل بعض الأصوات التي تدعي الوطنية بينما تنشغل بقضايا ثانوية وصراعات داخلية ومكاسب شخصية بعيدة كل البعد عن هموم الوطن والمواطن. الانشغال بالمناكفات والتعيينات والوظائف وغيرها من قضايا لا تلامس الخطر الذي يتهدد الأرض والوطن والهوية فيما يجري تجريف الأرض وتحويلها إلى “منافع عامة” أو “محميات طبيعية” هو تفريط صريح بالسيادة الوطنية. القانون الدولي واضح فالمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة تحظر مصادرة الأراضي أو نقل سكان الدولة المحتلة إلى الأرض المحتلة. وقرار مجلس الأمن 2334 لسنة 2016 أكد عدم شرعية الاستيطان وكل ما ينتج عنه. وفتوى محكمة العدل الدولية عام 2004 بشأن الجدار شددت على أن إسرائيل ملزمة بإزالة العراقيل أمام حق الفلسطينيين في أراضيهم. إلغاء التسوية هو خرق لهذه المرجعيات ويُصنف كجريمة قانونية دولية تندرج في إطار سياسات التهجير والتطهير العرقي المقنّع بالقانون. ونخلص الى القول أن قرار الاحتلال إلغاء التسوية في مناطق (ج) هو أخطر تهديد للسيادة الوطنية لأنه ينسف الحق الفلسطيني في الأرض والملكية ويجعل الفلسطيني أسير إثبات دائم أمام محاكم الاحتلال. طولكرم نموذج صارخ لما يحدث على الأرض حيث يُحاصر المواطن بين الجدار والمستوطنات ويُحرم من استغلال أرضه. المسؤولية الوطنية تقتضي أن يكون هذا الملف في رأس الأولويات وأن تُحشد الجهود الرسمية والشعبية والحقوقية لتوثيق الملكيات ووقف مصادرة الأراضي وتدويل القضية. فالوطن يبدأ من الأرض ومن دون حماية الأرض لا دولة ولا سيادة ولا مستقبل.