غزة/ البوابة 24- دعاء شاهين:
بين القصف والمرض، يقف الغزيون في مواجهة موتين متوازيين؛ حرب عسكرية إسرائيلية لا تهدأ، وخوف آخر يتسلل صامتًا في الخيام من عدوى "كورونا"، خاصة مع موجة النزوح الجديدة من الشمال إلى الجنوب واكتظاظ النازحين في المدارس والمخيمات وحتى البيوت. هنا، يتداخل الخوف من الغارة مع الرعب من العدوى، وسط غياب شبه كامل للرعاية الصحية والفحوص الطبية.
في مدرسة بدير البلح تحولت إلى مركز إيواء، جلست آية عامر، ابنة الخامسة والعشرين، فوق سرير حديدي مهترئ، تغطي وجهها بكمامة بدائية صنعتها من قطعة قماش. قالت بصوت واهن: "بدأت أشعر بحرارة عالية وسعال جاف وضيق في التنفس مع صداع شديد وإرهاق لا يحتمل. كدت أعجز عن الحركة وظننتها إنفلونزا عادية، لكن الأعراض استمرت لأسبوعين كاملين وازدادت سوءًا".
كانت جاراتها في النزوح يزرنها للاطمئنان، وفي عيونهن مزيج من القلق والاستغراب. إحداهن نصحتها بمراجعة الطبيب في أقرب عيادة، محذرة من أن تكون الأعراض إصابة بـ"كورونا". لم تنتظر آية طويلًا، لكن فقدانها حاستي الشم والتذوق ضاعف خوفها. "ذهبت للعيادة"، تضيف: "فحصني الطبيب وقال عليّ أن أعزل نفسي فورًا لأن الأعراض تشبه كورونا، لكنه لم يؤكد النتيجة".
المأساة أن آية تعيش مع أسرتها الكبيرة في غرفة واحدة. تساءلت بقلق: "كيف أعزل نفسي وأنا أخشى أن أكون سببًا في إصابتهم؟ لا نجد حتى مكانًا نضع فيه رؤوسنا من شدة الاكتظاظ". زادها همًا انعدام أدوات الوقاية والنظافة، وحتى عصير الليمون الذي كان يقوي المناعة لم يعد موجودًا في غزة.
التقارير الدولية تقدر أن الصف الواحد في مدارس الإيواء جنوب القطاع يضم 25 إلى 30 نازحًا، وسط غياب المياه النظيفة والمعقمات. بيئة كهذه، كما يؤكد أطباء محليون، كفيلة بتفشي العدوى بسرعة مضاعفة.
الطبيب محمد منير من عيادات "الأونروا" يصف الوضع بأنه "قنبلة موقوتة"، إذ تكفي إصابة واحدة مؤكدة لتنتشر بين مئات النازحين في أيام، في ظل جهاز صحي مشلول بفعل الحرب.
يشير إلى وصول حالتين إيجابيتين إلى مشفى شهداء الأقصى، لكنه يؤكد أن الأمر ما زال قيد التحقق. ويقول: "الوضع الصحي متدهور بسبب الحصار والقصف الذي دمّر المرافق الطبية ومنع دخول الأدوية وأدوات الوقاية. غياب المختبرات والفحوص سيجعل المشهد أكثر تعقيدًا".
ونصح منير الغزيين بعزل أنفسهم فور ظهور أعراض الحمى والسعال وفقدان الحواس وصعوبة التنفس، لكن الواقع لا يمنح فرصة للعزل.
الحكومة بغزة حذرت بدورها من تفشي سلالة جديدة من الإنفلونزا، خاصة بين النازحين والأطفال بسبب الاكتظاظ وانعدام المياه والتهوية، "بينما تعجز المستشفيات عن المواجهة بسبب نقص الكوادر والأدوية"، محملةً الاحتلال المسؤولية وقد دعت للتدخل العاجل وفتح المعابر لإدخال المساعدات الطبية. لكن في المقابل، نفى المتحدث باسم مشفى شهداء الأقصى وجود حالات مثبتة رسميًا بكورونا.
وبين التصريحات المتناقضة، يعيش الغزيون حربين متوازيتين؛ حرب القصف وحرب الخوف من انتشار الفيروس. يقول محمد الوحيدي، وهو نازح في مخيم النصيرات: "نحن الآن ننتظر أن نعرف: هل سنموت من القذيفة أم من الفيروس؟".
محمد مرّ بأعراض مشابهة لأعراض آية، وشُخّص مبدئيًا بكورونا. بعد أن تعافى، تحولت مخاوفه إلى عائلته ومن لامسهم خلال مرضه. "كنت أوزع الطعام وأساعد الأطفال وأصافح الناس. كل يوم أفكر: هل نقلت العدوى لأحد؟ هل تسببت في إصابة كبار السن أو الأطفال؟".
ويضيف: "حتى لو تأكدَت إصابتي، أين كنت سأعزل نفسي؟ في غزة لا نملك رفاهية العزل ولا الأمان. في الخيام، مجرد سعال قد ينقل الفيروس لعشرات النازحين".
بين عامي 2020 و2022، استطاعت وزارة الصحة فرض عزل وفحوص عبر المعابر. اليوم، تحت القصف والنزوح والجوع، تبدو غزة أمام مشهد مختلف تمامًا: حرب تأكل الأرواح في العلن، ووباء يتسلل في الخفاء ليزيد الطين بلة.
وسط الخراب والقصف، يقف الغزيون على حافة القلق المستمر، ليس فقط من الموت المباشر بقذيفة، بل من فيروس صغير قد يتسلل بينهم بصمت. في الخيام والمدارس المزدحمة، كل عطسة باتت تثير الرعب، وكل غياب للتباعد أصبح خطرًا داهمًا. الغزيون يراقبون ملامح بعضهم البعض بعين متوترة، يخشون أن يتحول أي شخص إلى بؤرة للعدوى، ويعيشون الخوف المضاعف: هل سينجو أحباؤهم من القصف، وهل ستنجو أجسادهم من فايروس لا يرحم؟