إسرائيل بين إسبرطة القوة وأثينا الحضارة: مأزق العزلة ونبوءة التاريخ

بقلم المحامي علي ابوحبله

لم يكن تشبيه بنيامين نتنياهو لإسرائيل بإسبرطة في خطابه الأخير مجرّد استعارة بلاغية، بل كشف عن المأزق العميق الذي يعيشه المشروع الصهيوني. فقد أراد نتنياهو أن يُظهر إسرائيل دولة صلبة، قادرة على الصمود في وجه الحصار الدولي والتهديدات الإقليمية، لكنه في الواقع قدّم اعترافًا صريحًا بأن إسرائيل تتحول إلى دولة منغلقة، تعتمد على القوة وحدها، تمامًا كما فعلت إسبرطة القديمة التي انهارت رغم جبروتها العسكري. إسبرطة القوة: إسرائيل في مرآة ذاتها إسبرطة التاريخية كانت نموذجًا للعسكرة والانغلاق، حيث فُرض على الأطفال منذ نعومة أظافرهم التدرّب على الحرب، وغاب عنها الفكر والفن والسياسة. ورغم هيبتها العسكرية، هُزمت في النهاية على يد قوى أكثر مرونة وحضارة. خطاب نتنياهو وضع إسرائيل في هذا القالب نفسه: دعوة إلى التعايش مع اقتصاد محاصر "عصامي" بلا صادرات، واستعداد لقطيعة متزايدة مع العالم. الأمر الذي دفع معارضيه إلى القول إن هذا التصريح بمثابة اعتراف بالهزيمة الأخلاقية والسياسية. زعيم المعارضة يائير لبيد ردّ على نتنياهو بقوله: "إسبرطة انتهت بالدمار، ولن نسمح لإسرائيل بمصير مشابه"، فيما رأت صحيفة هآرتس أن الطريق الذي يسير فيه نتنياهو يقود إلى كارثة، داعية إلى الانفتاح على العالم بدل رفع جدران "الغيتو". حتى المعلق السياسي يوسي فرطر ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال: "للمرة الأولى يصدق نتنياهو ويقدّم توصيفًا دقيقًا لحالتنا، لكنه في الوقت ذاته صاغ لائحة الاتهام ضد نفسه". أثينا الحضارة: البديل الغائب عن إسرائيل في المقابل، كانت أثينا رمزًا للانفتاح والفكر والفنون، ومركزًا للتجارة والتحالفات الدولية. إرثها الخالد لم يكن بسبب قوتها العسكرية فقط، بل لأنها أسست نموذجًا حضاريًا ألهم البشرية. هنا يبرز التناقض البنيوي: إسرائيل لم تكن يومًا أثينا، رغم محاولاتها الترويج لنفسها كـ"أمة الهايتك". المثقفون الإسرائيليون أنفسهم، مثل روغل ألبير، أقرّوا بأن إسرائيل لم تُنجب أثينا داخلها، بل كانت وما زالت إسبرطة في جوهرها. أما الفلسطينيون، ورغم كل ما عانوه من حصار واحتلال، فقد راكموا عناصر أقرب إلى إرث أثينا: ثقافة وهوية صمدت عبر التعليم والأدب والفن، حتى في المنافي والمخيمات. شرعية سياسية وقانونية تستند إلى قرارات الأمم المتحدة والدعم الدولي المتزايد. تفاعل حضاري وإنساني مع محيطهم والعالم، من خلال جاليات واسعة وحضور ثقافي وفكري. ردّات الفعل الإسرائيلية: انقسام بين الاعتراف والإنكار خطاب نتنياهو فجّر جدلًا واسعًا داخل إسرائيل. فالمعارضة رأت فيه نذير انهيار و"غباءً سياسيًا"، بينما وسائل الإعلام حذّرت من أن إسرائيل تتحول إلى "قلعة صليبية" جديدة محاصرة من الخارج ومتآكلة من الداخل. حتى بعض الأصوات التي أرادت الدفاع عن نتنياهو لم تستطع إنكار أن إسرائيل اليوم أشبه بإسبرطة أكثر من أي وقت مضى. لكن في المقابل، برزت أصوات أخرى أكثر تطرفًا، كعاميحاي أتالي من يديعوت أحرونوت، الذي اعتبر الحرب "حربًا دينية" لا مجال فيها إلا للحسم العسكري. هذه الأصوات تعكس تيارًا متجذرًا في المجتمع الإسرائيلي يرى في "الإسبرطية" قدرًا لا مفر منه، بل هوية سياسية وأمنية لا يمكن التنازل عنها. إسقاطات على المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني المجتمع الإسرائيلي يعيش عسكرة كاملة: التعليم، الإعلام، وحتى الاقتصاد مسيّس وموجه نحو الحرب. هذا يعمّق العزلة ويفقده القدرة على إنتاج نموذج حضاري مستدام، مثلما حدث لإسبرطة القديمة. المجتمع الفلسطيني، رغم الحصار والدمار، يواصل إنتاج المعرفة والفن، ويستند إلى شرعية أخلاقية وقانونية عالمية. هنا يقترب الفلسطينيون من أثينا في تمسكهم بالثقافة والانفتاح والحق، مقابل إسبرطة الإسرائيلية الغارقة في القوة والعنف. خاتمة: نبوءة التاريخ أراد نتنياهو أن يستحضر إسبرطة كرمز للصمود، لكنه أغفل أن إسبرطة سقطت لأنها لم تعرف سوى الحرب. أما أثينا، ورغم هزائمها، فقد خلدت بإرثها الثقافي والحضاري. اليوم، إسرائيل تقف أقرب إلى إسبرطة، محاصرة ومعزولة، فيما يراكم الفلسطينيون عناصر البقاء عبر ثقافة وصمود وانفتاح يمنحهم شرعية تتجاوز الحرب. بهذا، يمكن القول إن خطاب "إسبرطة" لم يكن إعلان قوة كما أراده نتنياهو، بل اعترافًا غير مباشر بأن إسرائيل تسير في طريق مسدود، وأن نبوءة التاريخ قد تلحقها بمصير إسبرطة القديمة، فيما يظل إرث أثينا الحضاري أقرب إلى الفلسطينيين الذين يتمسكون بالإنسانية والحق رغم كل أشكال القهر.

البوابة 24