زيارةٌ لصالون تجميل.. تضميدٌ لجراح الحرب في غزة!

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- صفاء كمال:

كانت المرايا ترتجف مع كل دويّ قذيفة، الجدران الخفيفة تكاد تسقط، ورائحة البارود تزاحم عطر الشامبو والحنّة. عند الباب، وقفت امرأة في الأربعين من عمرها، تتردّد خطواتها كأنها تبحث عن شجاعة الدخول. رفعت يدها المرتعشة، وأمسكت بالمقبض الصغير، ثم دفعت الباب بخفة. قالت بصوت خافت: "بدي بس أقص شعري.."، ثم أردفت بصوتٍ يختنق: "أنا تعبت".

لم يكن طلبها تغييرًا لمظهر خارجي بقدر ما كانت تقصد به البحث عن شيء يشبه الحياة. رحّبت بها فاتن حبرون، الكوافيرة التي تُمسك المقصّ كمن يحمل دواءً سحريًا، وأجلستها على الكرسي أمام المرآة. انعكس وجهٌ شاحب على الزجاج، لكنّ المرأة، رغم الخوف، ابتسمت ابتسامة صغيرة، وكأنها وجدت أخيرًا مكانًا تخلع فيه ثقل الحرب عن كتفيها.

من كان يتخيل أن ترفض محلات الكوافير الاستسلام للخراب رغم عامين من الإبادة؟ لقد تحولت فجأة أدوات التجميل إلى وسيلة لمداواة أرواح نساء غزة، فيما يُسقن يوميًا إلى طوابير المياه والخبز والخوف.. يفتح الصالون أبوابه كنافذة ضوء، يمنحهن فرصةً لتضميد الجراح، ونسيان الحرب ولو لساعات قليلة. مكان صغير يُقاوم بطريقته، يفتح أبوابه رغم انقطاع الكهرباء وندرة المستلزمات، ليحوّل النظر في المرآة إلى استراحة قصيرة من جحيم الحرب.

بينما كانت الغارات تُدوّي في الخارج، دخلت مجموعة من الصبايا في أوائل العشرينات يحملن طبق حلوى صغيرة. جلسن على المقاعد، طلبن تنظيف بشرة، وشغّلن موسيقى خفيفة ليهربن من أصوات القنابل. ضحكاتهن المترددة بدت كأنها صرخة ضد الصمت والدمار، بينما فاتن تمسّد وجوههن بيدين مرتجفتين، لكنها تُصرّ على أن تمنحهن بعض الصفاء.

تقول: "الصالون صار أكثر من مكان للتجميل، إنه جلسة فضفضة، مكان للبوح، موسيقى تغطي أصوات الانفجارات، ستائر تحجب الغبار، وضحكات تُحاول أن تهزم البكاء".

النساء اللواتي يدخلن صالون فاتن يحملن معهن حكايات متعبة. أقدام متشققة من طول الوقوف على الحطب، أيدٍ محروقة بالدخان، بشرة أرهقها الغبار، وشعر يتساقط بفعل المرض أو القهر أو قلة الغذاء. بعضهن يطلب تنظيف البشرة، أخريات يردن جلسة مساج بسيطة أو حناء على اليدين كرمز صغير للفرح، وربما رموش أو صبغة شعر لتذكير أنفسهن أنهن ما زلن قادرات على الاختيار، ولو في تفاصيل صغيرة.

منذ الهدنة الإنسانية في يناير 2025م، عاد صالونات الكوافير تعج بالنساء: صبايا محبطات، أمهات ثكالى، زوجات فقدن المعيل، وحتى جدّات يحملن تعب السنين. تخبرنا فاتن: "كلهن يطلبن شيئًا من الجمال، لكن ما يبحثن عنه حقًا هو استراحة نفسية. حتى جلسة بروتين للشعر صارت وسيلة للتنفس، وكأن فروة الرأس تستعيد حياتها من جديد".

مرام (36 عامًا)، تقول بصوت مبحوح: "شعري كان كتلة يائسة، لا أنام من الحكة والتساقط. دخان الحطب علق في مسامه، شعرت بأن رأسي لم يعد لي. حين قصصت شعري ونظفته، شعرت بأنني أتنفس من جديد".

تضحك ضحكة حزينة، لكنها تُمسك خصلاتها القصيرة كما لو أنها تحمي حياةً عادت إليها.

أما سحر (52 عامًا) فكان لديها امتحان مختلف مع الأمل. بعد عملية جراحية أنهكت جسدها، أصرت أن ترى ابنتها عروسًا رغم الحرب والمرض. تقول: "ألغت ابنتي الحفل، لكنني رفضت. يوم زفافها لا يمر عاديًا".

قصدت السيدة الصالون، هيّأت شعرها، وضعت القليل من المكياج، ارتدت فستانًا رغم الألم. "أردت فقط أن تراني ابنتي واقفة بجانبها بكامل فرحتي"، تضيف بعينين تلمعان بالدمع والفخر.

الكوافيرة فاتن تعرف أن هذه اللحظات تُكلف غاليًا. الكهرباء مقطوعة، المستحضرات نادرة، والأسعار تصعد مع كل يوم. جلسة مساج تضاعف ثمنها، والبروتين للشعر صار رفاهية نادرة.

بعض النساء لا يستطعن دفع المبلغ، فتبتكر فاتن طرقًا بديلة: تجهّز وصفات طبيعية بالزيوت، تقتطع من وقتها لزيارة خيمة امرأة مسنّة، أو تلبي طلب مريضة أن تقص شعرها في سريرها. تقول: "ذات يوم، طلبت مني سيدة ستينية فقدت زوجها أن أُدلّل يديها. جلستُ بجانبها في الخيمة، وقصصت لها شعرها. لم يكن الأمر عن الشعر، كان عن شعور أنها ما زالت موجودة".

الصالون هنا ليس مكانًا للزينة فحسب، بل بيتًا مؤقتًا للروح. كل يد تُمسَّد، كل خصلة تُصفف، كل لمسة حناء على كفٍّ متعبة، هي شكل من أشكال إعادة المرأة إلى نفسها، ولو للحظة قصيرة. النساء يخرجن ربما بشعر لامع أو شفاه موردة، لكن الأهم أنهن يخرجن بأرواح أخفّ قليلًا، وكأن المرآة أقنعتهن أنهن ما زلن يستحققن الحياة.

هذا ليس حلًا كاملًا، لكنه نافذة. لو دُمجت هذه الخدمات ضمن برامج الصحة النفسية، لو دُعمت ماليًا ولوجستيًا، لكان الأثر أعمق. في غزة، حيث يُختزل الحلم في شربة ماء بارد أو وجبة ساخنة، يصبح الاهتمام بالمظهر شكلًا من أشكال المقاومة. الجمال هنا ليس ترفًا، إنه محاولة صامتة لمواجهة الفناء. وسط الحرب، يبقى الصالون صرحًا لا يُقهر، لأنّه يُذكّر النساء أنهن ما زلن قادرات على أن ينظرن إلى المرآة ويبتسمن.

البوابة 24