كرامة مؤجلة: معاناة النظافة في خيام غزة

غزة/ البوابة 24- ريم سويسي:

تحت خيمة مهترئة في جنوب غزة، تجلس فدوى تمشط شعر طفلتها أمل بيدين مغبرتين، بينما تضحك الصغيرة في محاولة لسرقة لحظة عادية من قلب الفوضى. في هذا الركن الضيق من العالم، تتحول أبسط تفاصيل الحياة إلى معركة يومية من أجل البقاء، وتغدو قطرة الماء وصابونة صغيرة أمنية مؤجلة. هنا، تتقاطع قصص النازحين في خيامهم مع معركة أخرى صامتة، عنوانها الحفاظ على الكرامة في غياب النظافة والخصوصية.

أصعب ما في واقع الحرب والنزوح هو تفاصيل العيش في خيمة، وأقسى ما في هذه التفاصيل أن تُنسف أبسط مظاهر النظافة الشخصية، في ظل شح المياه، وغياب الصابون، وانعدام الخصوصية التي تحولت إلى حلم مؤجل وكرامة تُنتزع بصمت. النازحون الذين أُجبروا على مغادرة منازلهم بفعل أوامر جيش الاحتلال يروون قصصهم بحذر، محاولين وصف ما لا يوصف من قسوة هذا الواقع.

شح المياه وترف الصابون

يقول ساجد العفيفي (40 عاماً)، نازح من بلدة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة منذ خمسة أشهر والمقيم حالياً في مواصي خانيونس جنوبي القطاع: "اكتظاظ المخيم الذي نقطن فيه أدى إلى ندرة المياه، ما أجبرنا على الاقتصاد في استخدامها، حتى إننا نغسل أيدينا بالماء فقط دون صابون، لأننا غير قادرين على شرائه. لقد أصبح شراؤه ترفاً".

ويضيف: "لا أقوم بحلاقة ذقني كما كنت معتاداً قبل الحرب بسبب قلة الماء وارتفاع سعر شفرات الحلاقة في الأسواق"، مشيراً إلى أن "الحد الأدنى من النظافة الشخصية بات رفاهية، وغيابها تسبب بانتشار أمراض كثيرة بين النازحين، خصوصاً الأطفال".

من حوله، تتكرر المعاناة نفسها في معظم الخيام، حيث تحوّل الحفاظ على النظافة إلى عبء يومي، يتداخل فيه العجز المادي مع غياب الموارد، لتغدو الرغبة في الاغتسال أو غسل الملابس حلماً بعيد المنال.

التنظيف بالرمل

تتدخل زوجته (34 عاماً) وأم لثلاثة أطفال لتكمل المشهد بقولها: "تخيلي أننا نحمّم أطفالنا بالرمل! في ظل غياب منتجات الاستحمام وغلاء أسعارها". وتضيف: "حتى تبديل الملابس وغسلها يتم دون صابون أو مسحوق غسيل بسبب غلاء الأسعار".

وقد ارتفعت أسعار مواد التنظيف في ظل إغلاق المعابر ومنع إدخال المساعدات والبضائع إلى قطاع غزة.
وباتت مواد النظافة كافة، مثل الصابون وسائل غسيل الأواني والملابس وشامبو الاستحمام، نادرة وباهظة الثمن، نتيجة سيطرة جيش الاحتلال على المعابر والتحكم في إدخال البضائع.
هذه السيطرة جعلت اقتناء مواد النظافة أمراً شبه مستحيل للنازحين الذين لا يملكون ثمنها في ظل الفقر الذي بلغ مستويات غير مسبوقة، وفق تقديرات البنك الدولي أواخر عام 2024.

الاستحمام مرة شهرياً

من خيمة أخرى، تروي ريم شقليه (23 عاماً)، وهي عروس تزوجت في الخيمة قبل شهرين، معاناتها اليومية: "أنا كعروس تنقصني مقومات النظافة الشخصية. أعيش في خيمة مع والدة زوجي، ولا أستحم إلا مرة واحدة شهرياً بسبب قلة المياه".
وتضيف: "انعدام الخصوصية يجعل أي صوت مسموعاً وأي حركة لافتة. حتى تبديل الملابس داخل الخيمة مغامرة، فالأقمشة التي تشكل جدرانها لا تستر، بل تكشف الداخل. وحتى نشر الغسيل له محاذيره الخاصة في هذا الواقع حيث الخصوصية معدومة".

ومع تكرار هذه الشهادات، تتضح الصورة القاتمة للحياة في خيام النزوح، حيث فقدان أبسط مقومات الراحة الإنسانية. فمنذ اندلاع الحرب المدمرة على القطاع في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قطعت إسرائيل إمدادات الماء والغذاء والأدوية والكهرباء والوقود عن سكان غزة البالغ عددهم نحو 2.3 مليون نسمة، الذين يعانون أصلاً من أوضاع معيشية متدهورة.

وقد حذرت مؤسسات صحية محلية وأممية مراراً من انتشار الأمراض والأوبئة بين النازحين بسبب نقص المياه وانعدام مقومات النظافة الأساسية، لتصبح الحرب على الأجساد أكثر من مجرد قصف، بل امتداداً يومياً لمعركة النجاة في الخيام.

تأثير نفسي للصعوبة اليومية

تشير الأخصائية النفسية تغريد محسن إلى أن انعدام مقومات النظافة الأساسية لا يترك أثرًا جسديًا فقط، بل يترك بصماته على الصحة النفسية للنازحين. تقول محسن: "النساء والأطفال يعانون من قلق مستمر وتوتر متزايد نتيجة غياب الخصوصية وصعوبة تلبية أبسط احتياجات النظافة. الشعور بالعجز أمام أبسط الأعمال اليومية يعزز شعورهم بفقدان السيطرة ويضعف ثقتهم بأنفسهم". وتضيف: "هذا الضغط النفسي المستمر قد يترك آثارًا طويلة الأمد على نمو الأطفال وتماسك الأسر، ما يجعل الأزمة أكثر تعقيدًا من كونها مجرد نقص في المياه والصابون".

كرامة تحت الاختبار

بين جدران قماشية لا تقي برداً ولا تستر جسداً، تتحول النظافة الشخصية إلى فعل مقاومة صامت، يحاول به النازحون الدفاع عن إنسانيتهم في مواجهة الفقد والحرمان. ليست المعركة هنا على الماء أو الصابون فقط، بل على الحق في الشعور بأنك ما زلت إنساناً يستحق أن يعيش بكرامة، حتى وإن كان في خيمةٍ تُغسل فيها الوجوه بالرمل وتُؤجل فيها الأحلام إلى إشعار آخر.

البوابة 24