غزة/ البوابة 24 - جنين أبو جراد
في خضمّ الحرب في قطاع غزة، تتكشف فصول مأساة إنسانية صامتة تطال النساء الحوامل والأجنة والأطفال حديثي الولادة، وسط مؤشرات ميدانية مقلقة عن تزايد حالات التشوهات الخلقية والإجهاض الناتجة عن التعرض المباشر للأسلحة والغازات السامة، إلى جانب الانهيار شبه الكامل للمنظومة الصحية ونقص الغذاء والدواء.
"تزوجت خلال الحرب، وبعد شهرين فقط، استُهدف منزلنا بثلاثة صواريخ حربية. في الصاروخ الثالث، أصيبت زوجتي إصابة مباشرة وهي حامل في شهرها الثاني، ما أدى إلى كسر في القفص الصدري وإصابة في الرأس وحروق في مختلف أنحاء الجسد"، يقول هادي ميسرة ميمه من شمال قطاع غزة لـ"البوابة 24".
ورغم فداحة إصابتها، استمر الحمل وسط خوفٍ دائم ونقصٍ حاد في العلاج. يروي هادي: "تلقت زوجتي علاجًا محدودًا حفاظًا على الجنين، حتى أنجبت طفلنا (ميسّره) بوزن كيلو و400 غرام فقط. لكنه توفي بعد سبعة أيام من ولادته بسبب التهابات شديدة في صدره نتيجة الغازات التي استنشقناها خلال القصف".
ثم يواصل بصوتٍ متعب: "أخبرتنا الطواقم الطبية بخطورة الأدوية على الجنين، لكننا أصررنا على إكمال الحمل رغم المخاطر. هذه ليست إصابات عادية، بل جريمة مستمرة. الاحتلال استخدم غازات وأسلحة أثّرت على الأجنة والمواليد، والمستشفيات كانت مليئة بأطفال يعانون من تشوهات أو حالات حرجة. ابني لم يكن الوحيد".
في التاسع عشر من أغسطس، وُلدت حكمة نوفل من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، رضيعة فلسطينية وُصفت حالتها بأنها "نادرة جدًا". وُلدت بتشوهات خلقية معقدة في الوجه والعينين والفك السفلي، لتبدأ معركتها الأولى مع الحياة من قلب خيمة ووسط قطاع صحي منهك.
"كان حملي طبيعيًا تمامًا، أجريت الفحوصات بانتظام ولم يظهر أي خلل، لكن المفاجأة وقعت لحظة الولادة"، تقول والدة الطفلة حكمة لـ"البوابة 24".
وتتابع: "أخبرنا الأطباء أنهم لم يشاهدوا حالة مشابهة من قبل، ورجّحوا أن السبب يعود إلى الأسلحة المستخدمة في الحرب. حكمة لا تستطيع الرضاعة أو التنفس بسهولة، وتتغذى من خلال أنبوب في معدتها أبدله بنفسي رغم خطورته، في ظل غياب أي متابعة طبية. لا أحد يراقب حالتها سوى مؤسسة طبية خارجية تقدّم لنا الإرشادات عبر الإنترنت. حاولنا التوجّه إلى مستشفى الأقصى دون جدوى، بينما أكد الوفد الطبي المصري في مستشفى ناصر أن حكمة بحاجة إلى سلسلة عمليات عاجلة لترميم وجهها وإنقاذ حياتها".
استهل الدكتور رائد البابا، طبيب الأطفال في مستشفى العودة، حديثه بالقول إن المستشفى يعاني منذ شهور من "كوارث إنسانية غير مسبوقة"، مع تزايد ملحوظ في حالات الإجهاض والتشوهات الخلقية بين حديثي الولادة. ويؤكد أن هذه الحالات غالبًا ما تكون مرتبطة بالتعرض للمواد السامة الناتجة عن القصف واستخدام أسلحة محرّمة دوليًا.
ويستدرك بالحديث عن إحدى الحالات الأكثر تأثيرًا: "استقبلنا مولودة من عائلة القانوع في جباليا البلد وُلدت من دون دماغ، وهي حالة تُعرف طبيًا باسم (Anencephaly)، تحدث بنسبة حالة واحدة في المليون عالميًا. بقيت الطفلة على قيد الحياة ثلاثة أيام فقط". ويضيف: "ومثل هذه الحالات لم تعد استثناءً، فقد لاحظنا تكرارها بعد كل موجة قصف عنيف، ما يشير إلى وجود علاقة مباشرة بين نوعية الأسلحة المستخدمة والتشوهات التي نراها".
حول الوضع الصحي العام، يشير البابا إلى أن المستشفيات في غزة تعمل في ظروف شبه مستحيلة، مع نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، وإرهاق شديد للكوادر التي تعمل بإمكانيات محدودة، ما يؤدي إلى فقدان أرواح يمكن إنقاذها.
ويختتم حديثه بنداء إنساني واضح: "الأطفال الذين يولدون هنا لا ذنب لهم. كل ما نريده هو أن يعيشوا بسلام، وأن تُحاسب الجهات التي تسببت بهذه المآسي".
يرصد الدكتور ماهر عجور، استشاري النساء والولادة، ارتفاعًا مستمرًا في حالات الإجهاض والتشوهات الخلقية بين النساء الحوامل في قطاع غزة، ويربط ذلك باستنشاق الغازات والأبخرة السامة الناتجة عن تفجير الروبوتات الحربية، مما أثر مباشرة على صحة الأمهات ونمو الأجنة.
ويؤكد أن الحصار المتواصل منذ أكثر من عامين فاقم الوضع الصحي بشكل خطير، إذ حال دون دخول المواد الغذائية الأساسية والأدوية والمكمّلات الحيوية التي تحتاجها النساء الحوامل. هذا النقص الحاد أدى إلى تدهور مناعة الأمهات وسوء تغذيتهن، وانخفاض مستويات عناصر ضرورية مثل الكالسيوم والفسفور، ما انعكس بشكل مباشر على النمو الطبيعي للأجنة، وزاد من احتمالات الإصابة بالتشوهات والمضاعفات أثناء الحمل والولادة.
بحسب الدكتور ماهر عجور، استشاري النساء والولادة، فإن غياب الإحصاءات الدقيقة نتيجة انقطاع التواصل مع المرافق الصحية لا يعني غياب الكارثة، بل يزيد من تعقيدها. ويؤكد أن المعاينات الميدانية تشير إلى تصاعد مقلق في حالات الإجهاض والتشوهات الخلقية بين النساء الحوامل، ما يعكس هشاشة الوضع الصحي ويهدد حياة الأمهات والأطفال على حدّ سواء، مشددًا على أن هذه المؤشرات، وإن لم تُوثق رقميًا بعد، تمثل نداءً عاجلًا لتدخل طبي وإنساني، وتستدعي تقييمًا علميًا منظمًا بعد توقف الحرب لكشف حجم الضرر الحقيقي.
وأكد على أن حجم الأضرار الصحية التي لحقت بالنساء والأطفال في غزة لا يمكن تقديره بدقة في ظل استمرار الحرب وانقطاع التواصل مع المرافق الطبية. ويشدد على أن تقييم هذه الكارثة الإنسانية يتطلب عملًا علميًا منظمًا بعد انتهاء العدوان، حيث يمكن حينها فقط جمع البيانات اللازمة ورصد الأرقام الفعلية التي تعكس حجم المأساة الصحية المتفاقمة.