بقلم موسى الصفدي
بين ركام غزة المدمّرة وخرائط التوسّع الاستيطاني في الضفة، يطفو أمام الفلسطينيين سؤال واحد قاتم: هل ثمة مخطط منظّم لتفريغ الأرض من سكانها؟ المشهد اليوم لا يحتمل إنكارات مريحة — ما نراه على الأرض من هدم، إخطار إخلاء، تسارع في خطط البناء الاستيطاني، ومحاولات تغيير الوضع في القدس، كل ذلك يكوّن صورة عملية تهديد جديّة لوجود الفلسطينيين في أماكنهم التاريخية. في غزة، حيث تحوّل جزء كبير من القطاع إلى خرائب، لم يعد الحديث مجرّد وصف إنسانيّ فحسب بل وثيقة ضرر اقتصادي وبشري قابل للقياس. تقارير تقييم الأضرار تشير إلى دمار واسع في البنى التحتية الحيوية وسبلا عيش مدمّرة، في حين تواصل وكالات الإغاثة التحذير من موجة نزوح داخلية هائلة واحتياجات إنسانية كارثية. هذه الحقيقة ليست مجرد رواية بل نتاج دراسات وتقييمات ميدانية رسمية. على الضفة الغربية وعلى مسرح القدس، تسجل السنوات الأخيرة قفزات في أنشطة الاستيطان: خطط ومناقصات لبناء آلاف الوحدات السكنية في التجمعات الاستيطانية، إضافة إلى اعتماد سياسات إدارية تُسهِم فعلياً في توسيع رقعة النفوذ الاستيطاني وقطع أوصال الضفة. أرقام وتقارير رسمية وأوروبية ومحلية توضح حجم التقدم في المخططات الذي يسبّب تآكلاً في فرص حلّ القضيّة على أساس دولتين. ثم هناك البعد الرمزي والسياسي: قرار واشنطن في 2017 الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وفتح السفارة كان له أثر سياسي ملموس على الأرض، إذ أعطى زخماً لسياسات تغيير الواقع في المدينة المحتلّة، وفتح مساحة لخطوات لاحقة تُغذّي محاولات "تطبيع" أو تغيير القِيم الرمزية للمكان. ليس المقصود هنا إلقاء اللوم على حدث واحد، بل الإشارة إلى أنه أصبح جزءاً من سلسلة عوامل متداخلة تُسهِم في تقويض الحقوق الفلسطينية في المدينة. مصطلح «التهويد» لا يختزل إلى تغيير أسماء أو رموز ثقافية فحسب؛ فهناك ممارسات إدارية وقانونية (إخطارات هدم، مصادرة أراضٍ، صعوبات تسجيل الملكية) بالإضافة إلى تشجيع الاستيطان والوجود الديموغرافي الذي يستهدف في جوهره تغيير التوازن السكاني والرمزي في القدس والأماكن المحيطة بها. تقارير دولية لهيئات حقوقية أممية وأوروبية وثقافية وثبتات ميدانية توضّح نموّ هذه الممارسات وضررها المتزايد. ما الذي على الفلسطينيين والضمير الدولي فعله الآن؟ خلاصة ميدانية وعملية: 1. توثيق مركّز وموحّد: تحويل كل حالة هدم، إخلاء، أو فقدان ملكية إلى ملف رقمي موحّد (صور، تواريخ، شهادات، خرائط ملكية)، مع فتح قنوات قانونية دولية ودفع القضايا إلى هيئات قضائية وإدارية دولية عندما تتوفّر الأدلة. (مصدر: تجارب توثيق ميدانية ومستندات تقارير). 2. ضغط دبلوماسي ذكيّ وممنهج: تجاوز خطاب التنديد إلى تحالفات برلمانية ومدنية في أوروبا والأمريكيتين وآسيا، واستهداف قضايا ملموسة — مثل إلزاميات شفافية إعادة الإعمار، أو شروط إعفاءات إنسانية، أو رصد موافقات بناء جديدة. 3. حماية مجتمعية مدنية: برامج قانونية لمساعدة العائلات على تثبيت ملكياتها، خدمات قانونية ميدانية، تهيئة شبكات أمان مجتمعية لمنع الإخلاءات المفاجئة، وتوثيق يومي لاعتداءات المستوطنين والممارسات الإدارية. 4. حملة إعلامية رقمية وعالمية مركّزة: سرد إنساني مدعوم بأدلة بصرية وبيانات رسمية يغيّر من طريقة تفاعل الجمهور والداعمين حول العالم — ليس لتأجيج المشاعر، بل لتغيير موازين الضغط السياسي والدبلوماسي. 5. مطالبات إنسانية واضحة لإعادة إعمار شفّافة: وضع شروط دولية للتمويل تضمن عدم استغلال موارد الإعمار لتوطين بديل أو تغيير ديموغرافي، ووجود آليات رقابة مستقلة على مشاريع البنية التحتية. لم يعد الحديث عن الخطر فلسفةً أو تهويلًا؛ إنه واقع يتشكّل عبر ممارسات متضافرة: تدمير ماديّ، توسع استيطاني، تغييرات إدارية ورمزية. المواجهة لا تكون بالصراخ وحده ولا بالعاطفة دون تخطيط؛ بل بالتوثيق القانوني، العمل المدني المنظّم، التحالفات الدولية المدروسة، وحملات إعلامية تؤسّس لوقائع لا يمكن تجاهلها على رقعة القرار العالمي. إنّ حماية أهلنا في المكان تتطلّب اليوم استراتيجيات عملية متكاملة — قانونية، دبلوماسية، إعلامية ومجتمعية — تحفظ لنا الحق في البقاء، في الذاكرة، وفي الأرض.