بقلم: عائد زقوت
شهد المشروع الوطني الفلسطيني، على امتداد العقود الماضية، تحوّلات بنيوية عميقة شَكّلت محطات فارقة في مسار تطوره السياسي والتاريخي؛ بدءًا من اتفاقية أوسلو التي أرست مسارًا تفاوضيًا باتجاه إقامة الدولة وِفْقَ المفهوم الدولي، مرورًا بتجميد المفاوضات في أعقاب الانتفاضة الثانية وما ترتّب عليه من تحوّل الترتيبات المؤقتة إلى واقع دائم متعثر، وصولًا إلى ما عُرف بـ«صفقة القرن» التي نزعت عن مفهوم الدولة الفلسطينية جوهر السيادة ووحدة الجغرافيا، وانتهاءً بالمقترحات الأخيرة لإنهاء الحرب في غزة، التي عكست أفقًا سياسيًا ضبابيًا وغير ملزم من حيث المضمون والتنفيذ. في ضوء هذا السياق، يُمثّل وقف الحرب الراهن لحظة مفصلية في التاريخ الوطني الفلسطيني، إذ لا يمكن النظر إليه بوصفه إنجازًا أخلاقيًا أو سياسيًا فحسب، بل باعتباره فرصة استراتيجيّة لإعادة بناء المشروع الوطني على أسس التّجدد والفاعلية. هذا الهدوء النسبي الذي يُتيحه وقف إطلاق النار يُمَكّن الفلسطينيين من إعادة ترتيب أولوياتهم، والانتقال من منطق الصراع والانقسام البنيوي إلى منطق البناء المؤسسي والاجتماعي. ويُعبِّرُ هذا التحوّل عن الانتقال من اختبار الإرادة في الصمود والمواجهة، إلى اختبار القدرة على إدارة تبعات ما بعد الحرب، بكل ما تحمله من تعقيدات إنسانيّة واقتصاديّة وسياسيّة، مما يجعل من تجاوز الانقسام هدفًا وطنيًا استراتيجيًا عاجلًا، لا خيارًا تكتيكيًا مؤجّلًا. إضافة إلى ذلك وحدة الموقف الفلسطيني وتجاوز الانقسام وما رافقه من هرطقاتٍ سياسية واصطفافات فئوية تُمثلان شرطًا بُنيويًا لأي تقدم وطني فعّال؛ فاستمرار التشرذم لا يهدّد فقط موقف ووحدة الكيان السياسي الفلسطيني، بل يقوّض إمكانية إعادة بناء مشروع وطني جامع، ويضع القضية الفلسطينية على حافة التفكّك السياسي والانزلاق في دوائر التصفية، فضلًا عن تحويلها إلى ساحة مفتوحة للتجاذبات الإقليمية والدولية، ومَكبٍّ مُستدامٍ لنفاياتها السياسية. إزاء ذلك، تبرز الحاجة المُلحّة إلى إعادة توجيه الطاقات المُهدَرة في الصراعات الداخلية نحو مسارات البناء والإصلاح المؤسسي، دون التفريط بمبدأ المساءلة أو التنازل عن مقتضيات العدالة، ولكن ضمن وعيٍ يُحوّل التجارب السابقة من عبءٍ مُثقل بالإخفاقات إلى رصيد تراكمي من الخبرة الوطنية ونضج الاستيعاب السياسي وتحمُّل المسؤولية. مع ذلك وقف الحرب لا يُمثل نهايةً لمرحلة المعاناة، بل بداية لمرحلة جديدة تتطلب مقاربة شمولية لمعالجة آثارها الممتدة؛ من إعادة الإعمار، وتضميد الجراح الإنسانيّة والنفسيّة العميقة، إلى إصلاح النظامين التعليمي والصحي، وصولًا إلى إعادة تأسيس البنيّة السياسيّة الفلسطينيّة على مرتكزاتٍ من الرؤية المشتركة، والشفافية، والكفاءة، ووحدة التمثيل. هذه المهام أيضًا لا تقتصر على بعدها الإجرائي أو اللوجستي، بل تنطوي على أبعاد أخلاقيّة وسياسيّة تَمتَحن مدى قدرة الفاعلين الفلسطينيين على صياغة مشروع وطني مُتوافق مع المصلحة العليا، بعيدًا عن الاستقطاب الفصائلي والاعتبارات الفئويّة، أو التوظيف الأيديولوجي للدين في سياقات سياسية مبتورة وضيّقة. كما تفرض المرحلة المقبلة إعادة هيكلة شاملة للأداءين السياسي والمؤسسي؛ فالشعب الذي قدّم تضحيات جسيمة يستحق قيادة مؤهّلة تتحلّى بالكفاءة والشفافية والمساءلة، وتُؤْمن بأنّ الوحدة الوطنية ليست خيارًا ظرفيًا بل ثابتًا استراتيجيًا لا يقبل المساومة. من هنا تتطلّب هذه الرؤية إعادة الاعتبار لدور منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الإطار الجامع والقانوني الوحيد للتمثيل السياسي للشعب الفلسطيني، وتجديد مؤسساتها عبر آليات ديمقراطية وانتخابية، تُعيد بناء الثقة الداخليّة، وتُعزّز الموقف السياسي والتفاوضي الفلسطيني في ظل بيئة إقليمية ودولية آخذة في إعادة تشكيل توازناتها وأولوياتها. وبناءً على ما تقدّم، فإنّ الانتقال من ثقافة ردّ الفعل إلى ثقافة الفعل، ومن منطق الصراع إلى منطق البناء، يُشكّل التّحدي الأعمق أمام الفلسطينيين اليوم؛ فوقف الحرب على أهميته، لا يُمثل نهاية المسار، بل مدخلًا إلى مرحلة نوعيّة جديدة، تتطلب وحدة الهدف، ووضوح الرؤية، وجرأة الإصلاح واتخاذ القرار. في المحصلة تُمثل نهاية الحرب في جوهرها فرصة وطنيّة لإعادة إطلاق المشروع الوطني الفلسطيني بروح متجددة ومسؤولية تاريخيّة، بعيدًا عن إعادة إنتاج الأزمات، أو الارتهان لدوائر العجز والتكرار، أو الاستمرار في الرقص على حافة التاريخ.