غزة/ البوابة 24- أحلام عبد القادر
بأظفارهم وبشوق قلوبهم، وبأيد خاوية إلا من معدات بدائية، نجح محمد الأغا بمعاونة أقارب وأصدقاء في انتشال جثامين عدد من أفراد أسرته وعائلته، التي ظلت عالقة لشهور تحت أنقاض منزلهم في بلدة القرارة شمال مدينة خان يونس في جنوب قطاع غزة.
في 15 مايو/أيار الماضي ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجزرة مروعة بحق هذه العائلة، عندما أغارت مقاتلات حربية على منزلها المكون من طبقة واحدة ودمرته فوق رؤوس ساكنيه، وبينهم نساء وأطفال.
استشهد في هذه المجزرة 7 من أفراد عائلة محمد الأغا، بينهم والده صلاح وشقيقه نعيم ونجله صلاح، فيما نجت والدته وشقيقتها وبناتها الثلاثة، وزوجة شقيقه وأطفالها الأربعة، وخرجوا من تحت الأنقاض بجروح متفاوتة.
صرخات شهيد
بقلب يقطر حزنا يتحدث الأغا للبوابة 24 عن اللحظة التي أعقبت الغارة مباشرة، ونجح مع آخرين في إجلاء والده وشقيقه نعيم من تحت الأنقاض، رغم أجواء الرعب التي كانت تخيم فوق رؤوسهم من مسيرات كوادكابتر فتحت عليهم النار مرارا.
خرج والد محمد حيا واستشهد في المستشفى بعد ثمانية أيام متأثرا بجروحه الخطيرة، وكذلك كان شقيقه نعيم يتنفس وفاضت روحه في مسرح الجريمة قبل أن يجدوا سيارة لنقله إلى المستشفى.
ومن بين تفاصيل كثيرة قاسية مرتبطة بهذه المجزرة لا يزال صوت صلاح (17 عاما) يتردد صداه في رأس محمد ولا يفارقه، ويقول: "كان يئن ويطلب النجدة من تحت الأنقاض حتى صمت وفقد حياته وسط عجز منا عن الاستجابة لصرخاته".
ولا يزال صلاح و4 شهداء آخرين تحت أنقاض المنزل، ويقول محمد إن هذا المنزل الذي كان يعج بالحياة والذكريات بات "قبرا من ركام وحطام، وكل يوم يمر على الشهداء فيه تتعمق جراحنا ويتواصل نزيف الوجع حتى نتمكين من إنتشالهم وإكرامهم بالدفن".
ومنذ الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في العاشر من الشهر الجاري يقضي محمد برفقة آخرين ساعات طويلة في "مهمة تبدو مستحيلة" للبحث بين أكوام الركام وأنقاض المنزل المدمر عن الجثث الخمسة.
جثة بلا رأس
وبعد 4 أيام من البحث الشاق والعمل المضني لساعات طويلة بأيد خاوية إلا من أدوات حفر بدائية، نجحوا في انتشال جثمان الشهيد نضال هارون الأغا، وهو ابن عم محمد وزوج شقيقته.
كان جسدا بلا رأس، وبحزن شديد يصف محمد حال جثمان الشهيد نضال، ويقول بكلمات ممزوجة بالألم: "ما تبقى من رأسه مجرد جمجمة كانت على بعد متر ونصف من الجثمان، الذي بدأ في التحلل".
"وكيف لي أن أنسى هذا المشهد الصعب، وكيف لي أن أنسى صرخات ابن أخي الفتى صلاح وهو يطلب النجدة ونحن نقف عاجزين أمام أكوام الركام المدفون تحتها؟، يتساءل محمد، وهو ليس حالة استثنائية في قطاع غزة، حيث تشير التقديرات الرسمية إلى أن نحو 10 آلاف مفقود، أغلبيتهم شهداء تحت الأنقاض، ليس بإمكان الدفاع المدني والفرق الإنسانية انتشال جثامينهم لعدم توفر الآليات الثقيلة والمعدات المناسبة للتعامل مع أطنان الركام.
وتقدر هيئات أممية ودولية أن التدمير الهائل والممنهج الذي تسببت به آلة الحرب الإسرائيلية أسفر عن أكثر من 55 مليونا من الركام.
محمد نفسه مع عائلته فقدوا جميع منازلهم في بلدة القرارة، ويقول: "المال معوض، ولكن ما نتمناه الآن أن ننتشل جثامين الشهداء ونكرمهم بالدفن".
قبور من ركام
ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار نجحت فرق جهاز الدفاع المدني في انتشال نحو 400 جثمان لشهيد، يقول الناطق باسم الجهاز محمود بصل للبوابة 24 إن أغلبية الجثامين تم انتشالها من الشوارع والطرقات في محيط مدينة غزة، التي كانت تشهد عملية عسكرية إسرائيلية موسعة قبيل التوصل للاتفاق.
ويقدر بصل أن قرابة 10% فقط من هذه الجثامين تمكنت فرق الدفاع المدني من انتشالها من تحت أنقاض المنازل والمباني المدمرة في أنحاء القطاع، من بينهم الشهيدة غادة رباح، التي تتشابه حكايتها المؤلمة مع حكاية الطفلة الشهيدة هند رجب.
ووفقا للناطق باسم الدفاع المدني فإن الشهيدة رباح (43 عاما) قتلت عمدا بعد أن تركها الاحتلال تنزف لساعات من دون السماح لطواقم الإنقاذ بالوصول إليها، رغم مناشداتها المتكررة ووضوح موقعها بعد الاستهداف الأول لمنزلها في حي تل الهوا جنوب غربي مدينة غزة.
كانت رباح على قيد الحياة عقب القصف الأول، وتواصلت مع أكثر من جهة طلبا للمساعدة، غير أن قوات الاحتلال رفضت التنسيق للسماح بمرور فريق الإنقاذ إلا بعد 72 ساعة، وعندما وصل الفريق إلى الموقع كان المنزل قد تحول إلى ركام، يقول بصل.
وبعد ثلاثة أسابيع على هذه الجريمة، وإثر انسحاب الاحتلال من الحي بموجب اتفاق وقف اطلاق النار، نجحت طواقم الدفاع المدني من انتشال جثمان الشهيدة رباح بعد جهد استمر لساعات في ظروف إنسانية بالغة الصعوبة.
ويوضح بصل أن جميع الأدلة الميدانية تشير إلى أن الشهيدة رباح تعرضت لجريمة استهداف متعمدة ومباشرة بهدف قتلها، حيث أعاد الاحتلال قصف المنزل للمرة الثانية لتدميره بالكامل.
وتحولت قصة المعلمة الشهيدة رباح، إلى رمز إنساني جديد يذكر بمأساة الطفلة الشهيدة هند رجب، التي قتلت هي الأخرى بعد أن أطلقت نداءات استغاثة متكررة ولم تصلها النجدة.
وبحسب رواية ابن عم الشهيدة، أسامة رباح، فإن غادة كانت قد عادت إلى المنزل برفقة شقيقها حسام لجلب بعض المتعلقات الشخصية، بعد أن ساعدت والدتها على النزوح، قبل أن تستهدف طائرة مسيرة السيارة التي كانت تقلهما، واستشهد شقيقها على الفور.
وبعد نجاتها من القصف الأول، احتمت داخل المنزل الذي تعرض بعد دقائق لغارة جوية، وفي اليوم التالي، نجحت في إرسال رسالة نصية إلى زميلتها في مصر تقول فيها إنها ما تزال على قيد الحياة وتناشد إنقاذها، وهو ما أعاد الأمل لعائلتها ودفعها للتواصل مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر والدفاع المدني.
لكن بعد 72 ساعة من الانتظار، قصف الاحتلال المنزل مجددًا قبل نصف ساعة فقط من دخول فرق الإنقاذ، ليدفن الأمل معها تحت الركام.
وفي حينه، قال عضو فريق الانقاذ عبد الله مجدلاوي: "نادت فرقنا باسمها مرارا بين الأنقاض، لكن لا صوت خرج بعد القصف الثاني... كانت فرصتها في الحياة قد سلبت عمدا".
مهمة مستحيلة
وفي وقت تتعنت فيه دولة الاحتلال وتتنصل من الإيفاء بالتزاماتها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، وترهن ذلك باستعادة جثامين نحو 18 أسيرا إسرائيليا كانوا لدى فصائل المقاومة في غزة، فإن العالم يقف صامتا إزاء معاناة ذوي نحو 10 آلاف شهيد لا يزالون عالقين تحت الأنقاض.
وباستهجان كبير يتحدث بصل عن ما اعتبرها "ازدواجية واضحة في مواقف المجتمع الدولي بين حرصه على انتشال جثامين أسرى الاحتلال، وتجاهله لمعاناة آلاف الشهداء الفلسطينيين تحت الركام".
ويقول إن "فرق الدفاع المدني تعمل على مدار الساعة في ظروف بالغة الصعوبة، لكنها بحاجة ماسة إلى معدات متطورة ومعدات ثقيلة لإنجاز مهام انتشال جثامين آلاف الشهداء"، لافتا إلى أن "عشرات المناشدات تصلنا يوميا من الأهالي الذين يطالبون بانتشال جثامين ذويهم من تحت الأنقاض".
وتقدم جهاز الدفاع المدني للمنظمات الدولية بقوائم بالاحتياجات الطارئة والمتطلبات الفنية اللازمة لعمليات انتشال جثامين الشهداء، غير أن بصل يؤكد أن الاحتلال لم يسمح حتى اللحظة بإدخال أي من هذه الاحتياجات، وأبرزها الآليات الثقيلة من جرافات ورافعات ومعدات أخرى، الأمر الذي يجعل من انتشال الجثامين "مهمة مستحيلة".
ويشير بصل إلى أن جثامين الشهداء قد تحللت، وبعضها عبارة عن أشلاء ممزقة وكومة من عظام، وقد مضى على الكثير منها عامين كاملين تحت أنقاض المنازل والمباني المدمرة.