بعد عقودٍ من الدعوة والتوثيق… الحلم يتحقق

بقلم: د. نهاد رفيق السكني
بعد عقودٍ من الدعوة والتوثيق… الحلم يتحقق
وزارة الصحة تطلق السجل الوطني للأمراض الدموية الوراثية في فلسطين
لم أكن أظن، حين بدأت قبل أكثر من عشرين عامًا في توثيق الحالات الوراثية بين المرضى، أن يأتي يوم أرى فيه تلك الأوراق المتناثرة تتحول إلى مشروع وطني رسمي تتبناه وزارة الصحة الفلسطينية.
لكن ما حدث اليوم يجعل الإيمان بالفكرة أعظم من أي يأس، ويؤكد أن ما يُزرع بإخلاص في الأرض لا بد أن يُثمر، ولو بعد حين.
البدايات… بين الورقة والمريض
في بدايات عملي الميداني، كنت أرى المعاناة اليومية لمرضى الثلاسيميا والهيموفيليا وأسرهم، وأدركت أن المشكلة لا تكمن فقط في العلاج، بل في غياب المعلومة.
لم نكن نعرف حجم الانتشار الحقيقي لهذه الأمراض، ولا طبيعة الطفرات الوراثية، ولا مدى تكرار الحالات في العائلات المختلفة.
ومن هنا، بدأت — بإمكانات محدودة — بتوثيق كل حالة أصل إليها، محاولًا أن أبني تصورًا علميًا واقعيًا لملفٍ صحيٍ كان مهملًا لسنوات.
أنشأت حينها مدونة صغيرة حملت اسم “السجل الوطني لرصد الأمراض الوراثية”، لم تكن مدعومة من أي جهة، لكنها كانت تعبيرًا صادقًا عن قناعة شخصية مفادها أن:
“الوقاية تبدأ من المعلومة، وأن إنقاذ جيلٍ كامل يبدأ من قاعدة بيانات دقيقة.”
الطريق الطويل نحو الاعتراف
لم يكن الطريق سهلًا.
بين انشغال المؤسسات، وضعف التمويل، وتحديات العمل الميداني، كانت الفكرة تواجه دائمًا احتمال التوقف.
لكنني واصلت ما استطعت — مراسلات، محاضرات، أبحاث، وورش عمل تطوعية — على أمل أن تتبنى جهة رسمية هذا المشروع.
كنت أؤمن أن العمل الفردي مهما كان صادقًا، يبقى ناقصًا من دون تبنٍّ مؤسسي.
اليوم: يتحول الحلم إلى سياسة وطنية
واليوم، حين أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية رسميًا إطلاق السجل الوطني للأمراض الدموية الوراثية، شعرت أن سنوات الصبر والبحث لم تذهب سدى.
فقد تحقق الحلم بدعمٍ من الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي (AICS)، وبشراكة مع بنك الدم الوطني في إيطاليا ومؤسسة Fondazione EMO،
ليصبح السجل ركيزة وطنية للتحول الرقمي الصحي في فلسطين.
وفي كلمته خلال حفل الإطلاق، قال وزير الصحة د. ماجد أبو رمضان إن “السجل يمثل التزامًا إنسانيًا ووطنيًا تجاه كل مريض مصاب بالهيموفيليا أو الثلاسيميا”،
مؤكدًا أنه “خطوة محورية لتحسين التشخيص والعلاج واتخاذ القرارات الصحية المبنية على البيانات الدقيقة.”
كلمات الوزير لم تكن مجرد تهنئة، بل اعتراف رسمي بأهمية المعرفة العلمية في خدمة الإنسان، وهذا في ذاته ما كنت أرجوه منذ البداية.
من المبادرة إلى البناء
يتميز هذا المشروع بأنه لا يقتصر على جمع البيانات، بل يشمل أيضًا تدريب الطواقم الطبية الفلسطينية في الداخل والخارج،
وتمكين العائلات من إدارة العلاج المنزلي، خاصة لمرضى الهيموفيليا.
وهذه خطوة حيوية نحو تمكين المريض والأسرة، وجعل المعرفة وسيلة للعيش بكرامة، لا مجرد أرقام في ملفات طبية.
لحظة الامتنان والوفاء
في هذه اللحظة التي يتحقق فيها الحلم، لا يسعني إلا أن أعبّر عن امتناني العميق لكل من آمن بهذه الفكرة وساهم في دفعها نحو النور.
إلى معالي الدكتور ماجد أبو رمضان، الذي تبنّى المشروع ودعمه ليصبح سياسة وطنية، وكان أيضًا رئيس أول لجنة لتسجيل الأمراض الوراثية في فلسطين عام 2000، وهي اللجنة التي تشرفتُ بعضويتها آنذاك. كان لدعمه المبكر وإيمانه العميق بأهمية الرصد والتوثيق أثرٌ كبير في ترسيخ الفكرة وتطويرها حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.

وإلى معالي الدكتور رياض الزعنون، الذي وضع منذ البدايات الأسس الفكرية لضرورة وجود سجل وطني شامل.
وإلى الدكتورة الشهيدة رغدة الشوا، أول مديرة لمستشفى النصر للأطفال، التي كانت من أوائل من أولوا اهتمامًا خاصًا بالأمراض الوراثية، وجعلت من الطب رسالة حياة.
كما أُجِلُّ دعم الدكتور عبدالرحمن عيسى، مدير مستشفى النصر للأطفال، الذي أشرف على إعداد النماذج الأولى وساهم بجهدٍ ميدانيٍ دؤوب،
ولا أنسى ذكر المرحوم الدكتور عماد طراوية، وكيل وزارة الصحة الأسبق، الذي دعم المشروع بروحٍ وطنيةٍ ومسؤوليةٍ نادرة.
وإلى جميع أطباء الأطفال في قطاع غزة الذين تعاونوا بإخلاص، ووضعوا خبراتهم في خدمة هذا العمل الجماعي النبيل.
إن هذا السجل ثمرة جهدهم جميعًا، قبل أن يكون ثمرة فكرةٍ أو مبادرةٍ فردية.
حين تنتصر الفكرة
ربما تكون هذه التجربة درسًا بسيطًا في أن الأفكار لا تحتاج إلى ضجيج كي تبقى، بل إلى صدقٍ وإصرارٍ وإيمانٍ بالهدف.
ما بدأ كتوثيقٍ فرديٍّ، تحول اليوم إلى سياسةٍ وطنية، وهذا بحد ذاته أجمل تكريمٍ يمكن أن يناله الباحث.
ليس لي في هذا الإنجاز فضلٌ أكثر من أنني آمنت به وتمسكت بخيط الأمل حتى النهاية.
فالفضل لله أولًا، ثم لكل من آمن أن العمل العلمي لا يُقاس بالحجم، بل بأثره في حياة الناس.
“ما يبدأ من ورقة، قد يصبح سياسة وطنية… إذا كُتب بإخلاص.”

البوابة 24