غزة/ البوابة 24 -أحلام عبد القادر
دخان وغبار، وبركة من الدماء، وطفلة تصرخ رعبا من هول مشهد والديها وشقيقها ينزفون من حولها حتى الموت، حتى فاضت أرواحهم، ووجدت نفسها وحيدة في مبنى متداع يوشك على الانهيار.
لم يكن هذا مشهدا سينمائيا، وإنما واقعا عاشته الطفلة نغم (14 عاما)، وهي الناجية الوحيدة من أسرتها الصغيرة، وقد شاهدت والديها، وشقيقها أحدهما (4 أعوام) والثاني (17 عاما)، يموتون أمامها، ويكبلها العجز عن انقاذهم.
في 23 مايو/أيار من العام 2024 كانت هذه الطفلة على موعد مع مجزرة إسرائيلية مروعة ستغير حياتها إلى الأبد، عندما أجبرتها قوات الاحتلال مع أسرتها على مغادرة منزلهم، والنزوح من منطقة "جورة العقاد" في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.
ناجية بنزيف ذاكرة
على عجل وضعت نغم حقيبة صغيرة على ظهرها، تحتوي على القليل من الملابس ومتعلقاتها الشخصية، وهي عادة الغزيين التي دأبوا عليها من تجاربهم المريرة والمتكررة خلال الحروب الإسرائيلية وجولات التصعيد، التي تفرض عليهم إجراءات استثنائية للتعامل مع أوقات الطوارئ.
سيرا، حيث لا تتوفر وسائل مواصلات، وغير بعيد عن منزلها، انهمرت على على هذه الأسرة نيران الاحتلال، ولم تجد أمامها سوى منزل مدمر جزئيا ومهجور لتحتمي به من وابل الرصاص، وإذا بدوي انفجار هائل ناجم عن قذيفة تفجرت في هذا المنزل، وتهاوت جدرانه الباقية وتساقطت حجارته فوق رؤوسهم، وغابت الرؤية مع سحابة دخان وغبار كثيفة غطت الأرجاء.
كانت لحظات مرعبة عايشتها نغم، وسط صراخ يختلط بأنين وآلام أسرتها، حتى تكشف المشهد الدموي، الذي لن تمحوه السنين من ذاكرة هذه الطفلة المكلومة، وتتلقى منذ ذلك الحين تدخلات نفسية في جلسات متخصصة بعيادة الطب النفسي بجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
برأت الطفلة نغم من جروحها الجسدية، لكن جروحها النفسية لا تزال تنزف، وتقول الدكتورة نيفين عبد الهادي مديرة الصحة النفسية في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في قطاع غزة للبوابة 24 إن الطفلة نغم تعرضت لصدمة عنيفة بمشاهدة مجزرة مروعة بحق أفراد أسرتها.
ونغم ليست حالة استثنائية، ومثلها آلاف الأطفال في غزة، ممن كانوا شهودا على مجازر دموية مماثلة، أودت بحياة أسرهم، وتركتهم يتجرعون مرارة الفقد، وفقا بعد الهادي.
وتركت هذه المجزرة آثارا عميقة في نفس الطفلة نغم، وتوضح عبد الهادي أنها تقيم حاليا في خيمة متواضعة برفقة أسرة عمتها بمنطقة المواصي غرب مدينة خان يونس، وفي بيئة غير صحية ولا تساعدها على التخلص من مشاعر الخوف واليأس، والمشهد الدموي العالق في ذاكرتها، ويلاحقها حتى خلال ساعات نومها.
وتقول عبد الهادي إن نغم تعاني من ضغوط نفسية شديدة، انعكست على سلوكها بالميل إلى الانطواء وعدم الاختلاط مع أقرانها، والعنف مع الآخرين، وتتلقى منذ فترة طويلة في دائرة الصحة النفسية بالجمعية خدمات اجتماعية ونفسية ودعم نفسي وترفيهي.
بتر وفقد
للحرب الطاحنة التي عصفت بالغزيين على مدار عامين متتالين، آثارا نفسية عميقة، توضح عبد الهادي أنها تعرف علميا بـ "أعراض ما بعد الصدمة"، والتي مست كل شرائح المجتمع، رجالا ونساء وأطفالا، ومن كل الفئات والمستويات.
تسنيم (32 عاما) من سكان مدينة رفح جنوب القطاع، لها حكاية تقطر وجعا، وعنها تقول عبد الهادي إنها أم لأربعة أطفال، ولدان وبنتان، وكانت حاملا في شهرها الخامس، عندما وقعت حادثة قلبت حياتها رأسا على عقب.
بعد نزوح تسنيم وأسرتها من منزلها في رفح المدمرة كليا، إثر عملية عسكرية إسرائيلية واسعة في 6 مايو/أيار من العام الماضي، تعرضت خيمة لجأت إليها في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس، لاستهداف مباشر بغارة جوية إسرائيلية.
أصيبت تسنيم بجروح بليغة أفقدها الوعي ودخلت في حالة غيبوبة لنحو أسبوعين، لتستفيق بعدها على خبر مفجع أوجع قلبها أكثر حزنا منه على ساقيها، الذين اضطر الأطباء إلى بترهما، وحملت مبكرا صفة "أرملة" باستشهاد زوجها أحمد، ونجلها البكر محمد، فيما أصيب باقي أطفالها بجروح متفاوتة.
كان أحمد بالنسبة لتسنيم، ابن العم والصديق والزوج، وهو شريك حياتها، التي لم تعد هي ذات الحياة، وتقول عبد الهادي إن وقع الفقد كان صاعقا على تسنيم، التي كانت لتوها عائدة برفقة زوجها من مراجعة الطبيب للاطمئنان على حالة الجنين، وفي ساعات ليل ذلك اليوم أصاب صاروخ خيمتهم وحولها إلى رماد، والتهمتها النيران مع خيام أخرى ملاصقة.
يعشق أحمد حلويات "خلية النحل" التي تجيد تسنيم صنعها، ولكن عودتها سيرا لمسافة طويلة من المستشفى إلى الخيمة، وما أصاب جسدها من تعب، جعلها لا تقوى على تلبية طلبه لها بإعدادها، ولا تزال كلماته لها تؤرقها: "بلاش تعمليها بآكلها في الجنة"، وكلما تذكرتها تغرق في دموعها وأحزانها.
خيم الليل وغرقت خيمة تسنيم وأسرتها في ظلام دامس، وجلب معه الرعب، وحسب حديث تسنيم: "ليل غزة لا يشبه أي ليل حول العالم .. يحمل معه الموت والخراب".
في تلك الليلة تملك خوف وقلق شديدين قلب تسنيم من دون أن تخبر زوجها وأطفالها، الذين كانون يغنون ويلهون، من دون أمن يعلموا أنها آخر لحظاتهم معا في هذه الدنيا.
تتلقى تسنيم وابنتها مريم (12 عاما)، التي تجاوزت طفولتها ووجدت نفسها مسؤولة عن والدتها وأشقائها وتقوم بأدوار تفوق عمرها، تطهو الطعام على النار، وتركض وراء صهاريج متنقلة لتعبئة المياه.
تقول الدكتورة عبد الهادي إن خسارة مريم كانت مروعة، وتركت أثرها على صحتها الجسدية والنفسية، وأفقدتها طفولتها، حتى أنها باتت حبيسة الخيمة والتزامات أسرتها اليومية، وليس لها صديقات.
وتتلقى مريم ووالدتها دعما نفسيا، وبحسب الدكتورة عبد الهادي فإن الآثار النفسية العميقة التي تعاني منها هذه الأسرة تحتاج إلى تدخلات نفسية لفترة زمنية للتخلص منها.
صدمة مسعف
ولا تقتصر آثار ما بعد الصدمة على النساء دون الرجال، وللمسعف نور حكاية مؤلمة، ترويها الدكتورة عبد الهادي، وتقول إن نور شاب عشريني متزوج، وهو أب لطفلين، نزح بأسرته من منزله في مدينة خان يونس، ويقيم معهم في خيمة بمنطقة المواصي.
في ليلة الحدث الأليم، كان نور على رأس عمله، وانطلق بناء على إشارة الاستغاثة نحو شارع جلال، وكانت الساعة تشير إلى الثانية فجرا، وبرفقته مسعف آخر وسائق سيارة الإسعاف.
انتشل نور شهيدا ووضعه في سيارة الإسعاف، وفي الطريق إلى المستشفى وعندما ابتعدت السيارة عن سحابة الدخان والغبار المنبعثة من الانفجار، فوجئ بأن الجثمان المسجى أمامه هو والده، الذي حمله بين يديه مضرجا بدمائه وهو لا يعلم.
طوال شهور الحرب لم يغادر نور الميدان، ورغم ويلات ما يشاهد يوميا، لم يتخيل يوما أنه سيحمل والده شهيدا بين يديه.
نور يكره رؤية زميله المسعف الذي كان يرافقه في تلك الحظة، ويتجنب الحديث معه، ويتجنب كذلك المرور بمكان الجريمة، ولم تفلح جلسات الدعم النفسي حتى اللحظة في جعله يتخطى الحدث وتداعياته، بحسب الدكتورة عبد الهادي.
آثار ما بعد الصدمة
وتوضح الدكتورة عبد الهادي أن ردود فعل الصدمة من الناحية النفسية تستمر لأكثر من شهر بعد التعرض لحدث صادم، والصدمة النفسية هي تعرض الفرد لموقف أو حدث مفاجي يؤثر عليه ويترك آثارا نفسية، ومن تلك الأعراض استرجاع الذكريات المؤلمة بشكل متكرر (كالأحلام والكوابيس)، وتجنب كل ما يذكر بالصدمة، وتغيرات سلبية في الإدراك والمزاج مثل الشعور بالذنب والعار وفقد الاهتمام بكل ما يحيط به، بالإضافة إلى أعراض الإثارة ورد الفعل مثل اليقظة المفرطة والتهيج وصعوبة النوم والتركيز، وصعوبة النوم، وكذلك عدم الاهتمام بالمظهر العام وتجنب الاماكن التي حدث فيها الموقف الصادم.
ومن أكثر الفئات تأثرا بالصدمات، تحددها الدكتورة عبد الهادي بأنها الفئات الأكثر هشاشة من الأطفال والنساء وكبار السن وذوي الإعاقة.
وقد أثرت الحرب وتداعياتها وما صاحبها من أحداث مؤلمة ومفجعة وضغوط نفسية ناجمة عن الفقد والتدمير والنزوح والمجاعة على الناس بطريقة نفسية صعبة، وتركت أثارا صعبة عليهم، وتقول الاخصائية النفسية: كثيرا ما أشاهد رجالا ونساء يحدثون أنفسهم تأثرا بالحدث الأليم الذي ألم بهم، وخاصة الذين تعرضوا لحالات فقد في الأرواح، وتزداد الحالة سوءا إذا كان الفقد ماديا ومعنويا، كخسارة الأسرة والمنزل والعمل.
ومن أشد الأعراض وأكثرها شيوعا لآثار ما بعد الصدمة، الانطواء والعزلة، والتي تقود إلى الاكتئاب، وقد يؤدي لدى البعض إلى التفكير بالانتحار، وهذا كان جليا لدي عينة من الناس نتيجة حياة الخيمة وعدم الاستقرار والخصوصية، ونتيجة الخذلان الذي تعرض له البعض في العلاقات الاجتماعية.
وتتحدث عبد الهادي عن حالات تشكو من فقد الثقة بالاقارب والأصدقاء خلال الحرب وتجارب النزوح المريرة، حيث تأثرت العلاقات الاجتماعية على نحو خطير.
ما مر به الناس في غزة لا يوصف وغير مسبوق، وكون قناعة لدى عبد الهادي أن "غزة بحاجة إلى علم نفس خاص بها للتعامل مع آثار ما بعد الصدمة"، وتقول إن خسائر الحرب تفوق فقد الأرواح والمنازل والممتلكات، وقد مست القيم الإنسانية ومنظومة الاخلاق.

