بقلم: عائد زقوت
المواقف المُصنّدقة التي خرجت عقب انتهاء الاجتماع الأخير للفصائل التي تخلّت عن مسؤوليتها الوطنية في القاهرة تكشف أنّ امتداد السلطة لقطاع غزة أصبح أبعد منالًا من أي وقت مضى، وأنّ تلك الفصائل ما زالت تتخندق خلف مصالحها الحزبية الضيقة، وكأنّ حرب غزة بمآلاتها الإنسانية والسياسية جرت في كوكب آخر خارج المجموعة الشمسية. من الثوابت الفكرية، أنّ السؤال هو المحرك الأساس للتفكير البشري غير أنّ الحالة الفلسطينية تبدو استثناءً مؤلمًا؛ إذ نجد سدًا مانعًا أمام سؤال المقاومة، ومفتوحًا على مصراعيه أمام مقاومة السؤال، فحوصرت الفكرة داخل حدود المعرفة المجردة وأُفرغ السؤال من كونه أداة وعي ومقاومة، فالشعوب التي لا تسأل يُسلَب وعَيها وتصبح عرضة للاستبداد. في هذا السياق جاء سؤال رئيس الوزراء الفلسطيني د. محمد مصطفى لحركة حماس لتحديد موقفها دون مواربة سياسية؛ عبر تصريحه إنّ «أي دولة تحترم نفسها لا تقبل بتعددية السلاح والقانون والحكم». التساؤل وإن كان موجهًا لحماس، فإنه جاء كذلك تعبيرًا عن حالة الانسداد المستمرة في الحوار الداخلي بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس وحلفائها من القوى اليسارية والراديكالية. لم يأت التصريح تكرارًا لمبدٍأ نظري، بل تحذيرًا دبلوماسيًا من انزلاق غزة نحو نموذج حكم مزدوج على غرار ما شهدته الساحتان اللبنانية والعراقية وغيرهما حيث يستمر السلاح خارج المنظومة الرسمية كقوة موازية، تُمسِك بالقرار الأمني وتُقيّد القرار السياسي، بل قد يذهب الأمر إلى استيلاد نموذج فصل داخلي يُعيد إنتاج الأبارتهايد ليس في مواجهة اسرائيل، ولا في إطار فكرة الدولة الواحدة للشعبين، إنما داخل غزة، الأمر الذي يهدد بفصلها عن امتدادها السياسي مع الضفة الغربية التي ابتلعها الاستيطان. في إطار القراءة المتاحة، يمكننا القول أنّ تَمسُّك حركة حماس بسلاحها ليس فقط كرمز للمقاومة، بل أيضًا كوسيلة للحفاظ على موقعها في معادلة السلطة، في ظل تصاعد الضغوط الدولية التي تدعوها لترك إدارة القطاع بشكل مباشر وغير مباشر. غير أنّ استمرار هذا الواقع، في ظل حرب أنهكت المدنيين وعمّقت المأساة الإنسانية، يهدد بتحويل السلاح من درع وطني إلى أداة للاحتفاظ بالسلطة، وإلى قيد سياسي يُكرّس الانقسام ويُبقي غزة أسيرة منطق حكم الأمر الواقع لا بالشرعية الشعبية، وذريعة لتعطيل الحل السياسي الذي قد يُمهّد الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة. وعلى الرغم من أنّ تصريح رئيس الوزراء جاء مُعبرًا عن استمرار حالة الاستقطاب السياسي الداخلي، إلا أنه رسم معادلة واضحة: لا قيام لدولة فلسطينية ما لم يكن السلاح والقانون بيدها وحدها. فمصلحة الشعب تقتضي توحيد القرار تحت مظلة منظمة التحرير والدولة، لا استنساخ تجارب أثبتت أنّ ازدواجية القوة نبتة شيطانية تُضعف السيادة وتستنزف الإنسان قبل الأرض. إنّ مستقبل القضية الفلسطينية سيّما غزة لن يُبنى بالاستقطاب الحزبي، ولا بتعدد السلاح والبرامج، بل بسلطة وسيادة سياسية واحدة تحمي مصلحة الشعب ووحدة قراره. فمعركة توحيد السلاح ليست مجرد قضية أمنيّة فحسب أو رمزًا لمقاومة الاحتلال، بل اختبار لجوهر مشروع الدولة ومصدر شرعيتها. إنّ تمسّك بعض القوى بسلاحها، واستمرار الحرب بما تحمله من أعباء إنسانية، لا يهددان فقط باستيلاد "النموذج اللبناني" بصيغته الفلسطينية، بل يُمهدان لتصفية القضية الفلسطينية سياسيًا وتحويلها إلى مشروع إنساني، فلا يمكن أنْ يتعايش مشروع الدولة وفوضى الأجندات وتعدد السلاح في معادلة تقوّض السيادة السياسية، وتستنزف الشعب. من هذا المنطلق، تأتي دعوة الحكومة إلى توحيد السلاح والقانون في يد الدولة ليس تقليصًا لدور المقاومة، بل حمايةً لمصلحة الشعب ووحدة القرار الوطني. فغزة تستحق أكثر من أنْ تبقى رهينة معادلة مستحيلة؛ فلا دولةَ تُبنى، ولا كرامةَ تُصان بسلطة منقسمة على نفسها، فالطريق إلى إخراج غزة من اعصار الموت والتّيه السياسي، والوصول إلى دولة فلسطينية كاملة، يبدأ بانتهاء ازدواجية السلطة، وغلق باب الانقسام وفتح باب الوطن حيث السيادة للقانون والشرعية للشعب.
