غزة/ البوابة 24 - رائد كحيل
في لحظة كان يُفترض أن تكون بداية جديدة، عاد الأسير الفلسطيني هيثم سالم إلى قطاع غزة بعد تحريره ضمن اتفاق وقف إطلاق النار، ليجد نفسه أمام واقع يفوق قدرة الاحتمال: زوجته وأطفاله الأربعة استشهدوا في غارة إسرائيلية قبل أيام فقط من إطلاق سراحه.
هيثم، الذي اعتُقل عند حاجز إسرائيلي شمال القطاع، يروي تفاصيل اعتقاله قائلاً: "كان يوم ذكرى زواجي. كنت مع زوجتي وأطفالي، نظرت إليهم ونظروا إليّ، كانت تلك آخر مرة أراهم في الحياة". لم يُمنح فرصة لتوديعهم، إذ أمره الجنود بخلع ملابسه، وانهالوا عليه بالضرب والشتائم قبل اقتياده إلى السجن دون توجيه أي تهمة واضحة.

في التحقيق، سألهم: "ماذا لديكم ضدي؟"، فجاءه الرد من المحقق: "أنت مجرد عدد". عبارة تختزل سياسة الاعتقال العشوائي التي يتعرض لها الفلسطينيون، حيث يُحتجزون دون محاكمة أو مبرر قانوني.
بعد الإفراج عنه، نُقل هيثم إلى مستشفى ناصر، وهناك بدأ رحلة البحث عن عائلته. حاول الاتصال بزوجته عبر ثلاثة أرقام اتفق معها مسبقًا على إبقائها مفتوحة لأي طارئ، لكن جميعها كانت مغلقة. يقول: "كنت متفق معها أن هذه الأرقام لا تُغلق تحت أي ظرف، خشية أن يحدث شيء".

في المستشفى، لمح ابن عمه محمد، فهرع إليه يسأله عن العائلة، لكن محمد تهرب. وعندما ألحّ بالسؤال، جاءه الرد من أحد الأقارب: "العوض عند الله، أولادك الأربعة عند الله". عندها انهار هيثم، وقال: "يا فرحة ما تمت، يا ريت بقيت في السجن وما سمعت الخبر. كنت أدعو في السجن: يا رب لا تفجعني في أولادي وزوجتي".
هيثم كان قد أعدّ سوارًا بسيطًا لعيد ميلاد ابنته القريب، قبل أن يفجع باستشهادها. تفاصيل صغيرة كهذه تكشف حجم الألم الذي يعيشه الأسرى الفلسطينيون، ليس فقط داخل السجون، بل أيضًا بعد تحررهم، حين يواجهون واقعًا تغيّر بالكامل.
يمسك هيثم سالم هاتفه بيد مرتجفة، يقلب صور أطفاله واحدة تلو الأخرى، وكأنها نافذة أخيرة إلى عالمٍ فقده للأبد. ينظر إلى وجوههم الصغيرة، يهمس بصوت مكسور: "هذه الصور... رأيتها الآن"، ثم ينفجر بالبكاء، كأن كل لحظة في السجن كانت أهون من هذه اللحظة. الصور التي كانت تُعدّ لعيد ميلاد، تحوّلت إلى شواهد على غياب موجع، لا يُحتمل. في عينيه حزن لا يُترجم، وفي صمته صراخ لا يُسمع.

قصة هيثم ليست حالة فردية، بل تعكس واقعًا أوسع يعيشه آلاف الفلسطينيين، حيث تتداخل المعاناة بين الاعتقال، الفقد، والحرمان من أبسط حقوق الإنسان. وتطرح تساؤلات جدية حول سياسات الاعتقال، وظروف الأسر، وغياب المساءلة الدولية.
في ظل هذه المأساة، يواصل هيثم سرد تفاصيله بصوت مكسور، لكنه يحمل في داخله إصرارًا على أن تُروى قصته، لا بوصفها مأساة شخصية فقط، بل شهادة على ما يعيشه الفلسطينيون يوميًا تحت الاحتلال.


