للهرب من جحيم الحرب.. شبابٌ يبحثون عن النجاة في "قلبٍ أجنبي"!

غزة/ البوابة 24- ريم سويسي:

يجلس (إبراهيم. ف) أمام ركام منزله المدمر في حي الدرج وسط مدينة غزة، يحدّق في شاشة هاتفه التي تجمعه بصور امرأة غريبة الوجه واللغة. على الطرف الآخر، تظهر "نوا" الأميركية، التي تعرَّف إليها قبل أشهر عبر "فيسبوك" تبتسم له، بينما هو يحاول إخفاء وجعه بابتسامة مصطنعة، كأن الاتصال بينهما نافذة صغيرة يتسلل منها الأمل من بين الركام.

يقول الشاب ذو الثلاثة والعشرين عامًا: "قُصف بيتنا واستشهدت أمي.. بعد رحيلها شعرت أن الحياة توقفت. حتى جاء صديقي يومًا وقال لي مازحًا: تزوّج أجنبية، لعلّك تخرج من هذا الجحيم".

ضحك إبراهيم يومها، لكنه في اليوم التالي دخل إلى مجموعة إلكترونية تعنى بدعم الفلسطينيين. هناك تعرّف إلى "نوا"، فتاة في الأربعين من عمرها، متضامنة مع غزة، بدأت تراسله بلغةٍ لم يكن يتقنها، فاستعان بابنة خاله لتترجم له كلماته الأولى.

يقول وهو يحدّق في الهاتف: "لا أقول إنني أحبها، لكنني أريد الزواج بها طمعًا في لمّ شمل يمكّنني من مغادرة القطاع وبدء حياةٍ جديدة بعيدًا عن الخوف. لم أخبرها بنيّتي الحقيقية بعد، فهي تظن أن الأمر حبّ، بينما هو محاولة نجاة".

ليست قصة إبراهيم استثناءً، لكنها أيضًا ليست ظاهرة كما يتداول البعض. إنها محاولات فردية متفرقة، يبحث أصحابها عن ممرّ آمن من تحت الركام، في حربٍ طحنت أكثر من مليوني إنسان، خنقت فرصهم بالحياة والسفر والتعليم والعمل، صار الخروج من غزة حلماً، حتى لو عبر زواجٍ مؤقت أو علاقةٍ عابرة، ما دام يتيح لواحدٍ منهم أن يتنفس الهواء خارج الحدود.

من حيّ النصر غربي المدينة، يطلّ (أمجد. ر) (22 عامًا) بقصته المشابهة، وإن كانت أكثر صراحة. يقول مبتسمًا: "أبحث عبر مواقع التواصل عن فتاة أوروبية، ألمانية أو كندية، لا يهمّ إن كانت تكبرني بعشرين سنة. الفكرة واضحة: زواج مقابل مال، ثم الطلاق بعد حصول كلّ طرف على ما يريد".

يقهقه قبل أن يضيف بجدية: "هي تحصل على المال، وأنا أحصل على إقامة وجنسية. سمعت أنّ البعض نجح بذلك، فلم لا أحاول؟".

تلك "الصفقات" التي وُلدت من رحم الحرب، لا تمثّل سوى جزء صغير من حكاية أوسع عن شبابٍ ضاقت بهم الأرض، بعدما سُدّت أمامهم أبواب الخروج جميعها. بعضهم يحاول التواصل مع نساء من هولندا أو ألمانيا أو كندا، حيث تسمح القوانين هناك بإجراءات "لمّ شمل" سريعة نسبيًا للمتزوجين من مواطنيها، إن ثبت صدق العلاقة. لكن كثيرين يعلمون أن الطريق طويل وشائك.

يقول ضياء اللوح، شاب من غزة يعيش في ألمانيا منذ ثماني سنوات: "في أوروبا هناك نوعان من لمّ الشمل: الأول لمن حصل على اللجوء، وهؤلاء يُمنحون عامًا كاملًا لتقديم الطلب دون شروط معقدة، والثاني لمن تزوج بعد حصوله على الإقامة، وهنا تتدخل شروط الدخل والسكن وغيرها".

ويضيف: "الوقت قد يمتد من ستة أشهر إلى سنة كاملة، لكن الإجراءات اليوم أكثر تعقيدًا بسبب الحرب، والتحقق من نية الزواج أصبح أكثر صرامة من قبل".

من بلجيكا إلى هولندا وألمانيا، تتكرر الرواية ذاتها. (أكرم.س)، لاجئ غزي يقيم في بلجيكا منذ خمس سنوات، يعلق على الأمر: "نعم، هناك حالات من هذا النوع، لكنها محدودة جدًا. بعض أقاربي في غزة تواصلوا معي خلال الحرب يسألون كيف يمكنهم الزواج من أوروبيات لتسهيل السفر، لكن في النهاية، معظمهم تراجعوا حين عرفوا أن الدول الأوروبية تلاحق زواج المصلحة قانوني".

تؤكد ذلك الصحفية الفلسطينية روان الكتري، التي غادرت غزة مؤخرًا إلى هولندا: "الحالات نادرة للغاية. في هولندا وبلجيكا مثلًا، باتت السلطات تحقق بشكل معمق في دوافع الزواج قبل قبول الطلب. هناك قرارات جديدة تنص على ترحيل المستفيد إذا طُلّق بعد حصوله على الإقامة".

وتتابع: "الناس تتحدث كثيرًا عن الزواج من أجنبيات كأنه باب سهل، لكنه في الحقيقة طريق مليء بالعقبات. من يقدم عليه لا يفعل ذلك طمعًا بالمال أو الشهرة، بل بحثًا عن حياة آمنة، وهذا بحد ذاته مأساوي".

ما بدا مفاجئًا خلال إعداد هذا التقرير، أن الفكرة لم تقتصر على الرجال وحدهم. في تعليقٍ على منشورٍ عبر "فيسبوك" حول الزواج من أجنبيات، كتبت سيدة من غزة تقول: "أنا منفصلة منذ أعوام، ولديّ طفلان. عندما سمعت أن لمّ الشمل لا يكون إلا للزوج أو الزوجة، خطرت لي فكرة الزواج من أجنبي كي أهرب بأطفالي من الحرب".

وتكمل بابتسامة ساخرة: "حدثت صديقي الهولندي بالفكرة، فقال إنها سديدة، لكن من سيقبل بزواج كهذا؟ ما زلت أبحث عن عريس أوروبي يخرجني من هنا".

قصص كهذه تكشف عن جانبٍ خفي من اليأس الذي تزرعه الحرب في قلوب الشباب. زواج لا تشعّ فيه شرارة حبّ، بل دفقة نجاة. ليسوا طلابَ مغامرة، بل طلابَ حياة. فكل من يحاول مغادرة غزة اليوم يدرك أنه قد لا يعود.

بحسب تقرير لوكالة "رويترز"، فإن نحو ألف شخص فقط غادروا غزة خلال الأشهر الماضية إلى أوروبا عبر ترتيبات خاصة تنسقها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بعد موافقات إسرائيلية محدودة جدًا، فيما تشير بيانات الإحصاء الفلسطيني إلى أن عدد سكان القطاع انخفض بنحو 160 ألفًا منذ اندلاع الحرب، بين شهيد ونازح ومهاجر اضطراري.

في نهاية يومه، يجلس إبراهيم مجددًا أمام شاشة هاتفه، يرسل لـ"نوا" قلبًا أحمر، وهي ترد بابتسامة وكلمة "Hope"(أمل). لا يدري أيّهما يصدق أكثر: أن الأمل يمكن أن يأتي من زواجٍ لا حبّ فيه، أم أن البقاء في غزة لم يعد يحتمل انتظارًا أطول.

يقول بصوتٍ خافت: "الطفل الذي يولد هنا، يولد تحت الدخان.. وأنا لا أريد أن أنجب لأطفالي حربًا جديدة".

البوابة 24