غزة/ البوابة 24- سمر أبو شماس
تجلس ابتسام عيسى (61 عامًا) على حافة السرير، ممسكة بمسبحة تتدلّى بجانب مصحفها، رفيق وحدتها الطويلة. تتحدث بصوت متهدّج يكاد ينكسر: "لجأتُ لله، وإلى من تبقى من عائلتي وأحفادي كي أمرّر يومي دون نحيب. النسيان صعب جدًا، والأم ليست كما يصفونها دائمًا رمزًا أسطوريًا للصبر. نحن من لحم ودم ومشاعر".
نزحت ابتسام من حي الشجاعية في اليوم التالي لاندلاع الحرب. القصف كان كثيفًا، والبيوت تهتز تحت وقع الانفجارات. "هربت مع أبنائي إلى بيت أهلي في حي التفاح طلبًا للأمان"، تقول وهي تمسح دمعةً حاولت أن تخفيها، لكن ملامحها المرهقة فضحتها قبل أن تتكلم.
عندما وصلت إلى لحظة استشهاد ابنها الأول، خيمت غيمة رمادية على عينيها، وكأنها تحاول الهروب من مشهد محفور في الروح. لكنها لم تستطع. "ذهب ابني في 23 أكتوبر 2023 لتفقّد بيتنا وليجلب لنا ملابس وحاجيات. خرجنا بلا شيء. قلبي كان يخفق بسرعة غير طبيعية. دقائق فقط، واتصل ابني الآخر وهو يصرخ ليخبرني باستشهاد أخيه نتيجة قصف منزل كان يمر بجانبه".
تتوقف قليلًا، تحاول تثبيت صوتها، ثم تكمل: "رأى أشلاء أخيه عالقة على شجر الصبار. لم يستطع جمع جثته. عاش في صدمة حتى استشهاده هو نفسه".
الموت في غزة يلاحق البشر والحجر. وفي صباح الرابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2023، وبينما كانت ابتسام تتبادل مع شقيقاتها أحاديث عن احتمال النزوح جنوبًا، قلبت انفجارات مفاجئة اللحظة رأسًا على عقب.
"ارتجّ البيت كله"، تقول. "النار اشتعلت في الخارج، والدخان اخترق الغرفة حتى شعرت أن صدري ينغلق. سمعت صرخات أبنائي، وركضت نحو الباب لأرى أن الطابق العلوي الذي ينامون فيه صار هدفًا للقذائف".
واصلت صعود الدرج رغم ضعفها. حرارة النيران ولسعات الدخان لم توقفها. "كنت أصرخ وأستغيث. حياتي ليست في جسدي، حياتي هي أبنائي".
بكاءٌ بلا حدود، وذهولٌ يخنق الوعي. في تلك اللحظات، فقدت ابتسام ثلاثة من أبنائها دفعة واحدة. "أصبح عدد من فقدت أربعة أحبة، وابنتي ترقد في المستشفى مصابة، تنتظر تحويلة للعلاج في الخارج لتجري عملية ضرورية في قدمها".
ولم تمضِ شهور طويلة حتى جاءها خبر آخر كطعنة جديدة. حفيدها البالغ من العمر ستة أعوام قُتل في أبريل/2025 بعد سقوط عمود باطون على رأسه أثناء لعبه في ساحة مدرسة الفارابي، إثر قصف صفوفها العلوية. "حفيد واحد كان كافياً ليبقي فيّ بعض الحياة"، تقول وهي تشدّ على مسبحتها، "لكن الحرب سلبته أيضًا".
لم تكتفِ الحرب بأخذ أبنائها وحفيدها، بل أخذت معها ذكرياتها وبيتها. "كنت أحلم كل يوم بالعودة لمنزلي. حياتي السابقة كلها كانت هناك. لكن كل ذلك ذهب بانهيار البيت واستشهاد أبنائي وحفيدي، وإصابة ابنتي".
تدهورت صحة ابتسام بشدة بعد هذه الصدمات المتتالية، ودخلت في غيبوبة استغرقت شهرًا في المستشفى، وخضعت خلالها لأول جلسة غسيل كلوي لإنقاذ حياتها. تقول: "بقيت في غزة ولم أنزح للجنوب. دفعت الضريبة: مجاعة، حرمان من الطعام الملائم لصحتي، وانعدام الرعاية. المراكز الصحية التي تقدّم غسيل الكلى دُمّرت أو أُغلقت. كثير من المرضى ماتوا، بعضهم قُتل، وبعضهم تدهورت حالته حتى النهاية".
وتضيف: "أنا مريضة وأحتاج للتغذية المناسبة، وللوصول الآمن للمشفى. الدواء غير متوفر، وما أحصل عليه يأتي بعد معاناة. وعندما تشتد الأحداث، أتوقف قسرًا عن الغسيل لأيام، وهذا يهدد حياتي".
الوضع الاقتصادي يضاعف محنتها. "أضطر للمشي مسافات طويلة لأن المواصلات صارت مرتفعة جدًا. أجلس أحيانًا على الرصيف لألتقط أنفاسي، وهذا يعرض حياتي للخطر لو وقع قصف قريب. أنا أرملة ولا مخصص مالي لي. أعيش على مساعدات بالكاد تكفي حاجاتي الأساسية، وخاصة حاجتي للمياه النظيفة".
في سبتمبر 2025 أسقط الاحتلال منشورات تطلب من السكان النزوح جنوبًا. كانت ابتسام لا تزال في حي التفاح، وهو من أخطر المناطق آنذاك. اضطرت عائلتها للرحيل معها كي تستمر في جلسات الغسيل.
"بعد جلسة الغسيل في 20 سبتمبر، كنت منهكة جدًا ولا أستطيع الصعود إلى القاطرة. جلسنا قرب السائق لأن ابنتي مصابة أيضًا. استغرق الطريق ثماني ساعات". وصلت في العاشرة والنصف ليلًا، منهكة وتبحث عن مكان آمن.
نامت تلك الليلة في خيمة ضيقة تضم 12 شخصًا. صراخ الأطفال، ذهول النساء، وعجز كبار السن شكّلوا خلفية قاسية لا يمكن تجاهلها. في اليوم التالي بحثت عن مكان لنصب خيمتها، لكن الزحام حال دون ذلك، فاستضافتهم عائلة أسبوعًا قبل أن يجدوا موقعًا قرب المشفى.
هناك، اضطرت لتقليل جلسات الغسيل من ثلاث إلى اثنتين أسبوعيًا. وكان ابن أختها يدفعها على كرسي متحرك حتى تصل إلى المشفى البلجيكي.
كانت تجلس تحت الشمس الحارقة في طريقها للمشفى، والجوع يقرص معدتها، لكنها رغم ذلك تحمل على وجهها ابتسامة حزينة: "إن للصبر حدودًا. الأم ليست جبلًا. ما فقدته ليس هينًا: أسرة كاملة، ضحكاتهم، تفاصيلهم، أحلامهم".
نزحت ابتسام وسط غزة، لكن قلبها ظل في الشمال، حيث ترقد قبور ثلاثة من أبنائها في الشارع، بلا تراب يحميهم، بعد استهداف المقابر ومنع الوصول إليها.
هي حكاية واحدة ضمن آلاف الحكايات، بعضها يُروى وبعضها يُطوى بصمت في حرب إبادة لا تشبه أي حرب أخرى. وفيما يفترض أن تحمي القرارات الدولية النساء، يبقى الواقع في غزة شاهدًا على أن كل تلك النصوص أبعد ما تكون عن حياة النساء اللواتي يواجهن الموت وحدهن، بلا حماية، وبلا عدالة.
