رانية مرجية:
صدرت رواية- العسف- للأديب الفلسطيني جميل السلحوت عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس 2014. ترجمها إلى الانجليزية الأستاذ سهيل أقيور، وصدرت عام 2023 عن دار الأمير للنشّر والتّوزيع في مرسيلية في فرنسا. الوجع في التفاصيل يمتلك السلحوت قدرة فريدة على تحويل التفاصيل الصغيرة إلى طعنة كبرى في الوعي. حين نرى أبو سالم يتلصص على جاره الشاب خليل الأكتع، لا نقرأ مجرد خيانة شخصية، بل نقرأ كيف يتحوّل الخوف إلى أداة تُغذّي الاستبداد. الكاتب لا يحتاج إلى خطب سياسية؛ فمشهد اعتقال الأستاذ داود أو تعذيب خليل في الزنزانة كافٍ لأن يجعل القارئ يختنق من رائحة العفونة، لا فقط في السجون، بل في العالم الصامت تجاه هذه المأساة. الإنسان في مواجهة آلة القهر الرواية ترصد تجربة الاعتقال كفضاء للامتحان الأخلاقي. الأستاذ داود وخليل لا يُقدَّمان كأبطال خارقين، بل كبشرٍ يتألمون، يخافون، ويصمدون رغم الانكسار. السلحوت لا يجمّل البطولة؛ بل يجعلها فعلًا داخليًا مقاومًا للانهيار، ولهذا تبدو الشخصيات حقيقية إلى حدّ الوجع. فالمحققون لا يضربون الأجساد فقط، بل يحاولون تدمير الذاكرة والانتماء، فيما تتحول الصلاة والدعاء والصبر إلى أدوات بقاءٍ وجودية لا دينية فحسب. لغة الرواية: بين التوثيق والوجدان لغة جميل السلحوت في العسف تجمع بين بساطة الريف الفلسطيني وعمق الفلسفة الإنسانية. هي لغة واقعية، لكنها مشبعة بالشعر الداخلي. الجمل القصيرة الحادة تشبه رصاصات، والجمل الطويلة المتدفقة تشبه دموع الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءهن عند أبواب السجون. وفي كل سطر، نسمع صوت القدس والقرية والمخيم، كأنها تروي نفسها عبر الكاتب. المرأة: شاهدة الصبر والألم في ظلال الأحداث المظلمة، تبرز المرأة الفلسطينية كعمود الخيمة الأخلاقي. أم خليل، زوجة داود، وحتى الطفلة خديجة، جميعهنّ يجسدن الذاكرة الحافظة للأمل. السلحوت لا يجعل المرأة هامشًا، بل يجعلها صلب المأساة ووقود البقاء، فهي التي تلد في المغارة، وتغسل الدّم بالدّموع، وتعيد للبيت رائحته بعد اقتحام الجنود. البُعد الإنساني والعالمي رغم أن الرواية تتحدث عن واقع فلسطيني محلي، إلا أنّها تطرح أسئلة إنسانية كونية إلى أي مدى يستطيع الإنسان أن يحافظ على كرامته حين تُسلب حريته؟ هل المقاومة فعل سياسي فقط، أم أنها موقف وجودي في وجه الإلغاء؟ من هنا، يمكن القول إن العسف ليست رواية فلسطينية فحسب، بل رواية الإنسان حين يُحاصر بين الخير والشّر، بين الخوف والكرامة. خاتمة «العسف» عمل أدبي عظيم لأنه لا يُقدّم دراما الاحتلال فقط، بل دراما الإنسان الفلسطيني في مواجهة اغترابه المزدوج. السلحوت يكتب لا ليُسجّل حدثًا، بل ليزرع في الذاكرة العربية والعالمية حقّ الفلسطيني في أن يُروى لا أن يُنسى. إنها رواية الألم النبيل الذي يُنقذنا من التبلّد، وتؤكد أن الأدب – حين يكتب بدمٍ صادق – يمكن أن يكون أبلغ من كلّ البيانات السّياسيّة. ا نوفمبر-٢٠٢٥
