من وعد بلفور إلى الاعتراف الأوروبي: قرن من التحوّلات بين الوعد والدولة

بقلم: عائد زقوت

قراءة في الموقف الغربي واستحقاقات المشروعين الصهيوني والفلسطيني بعد أكثر من قرن على وعد بلفور عام 1917، الذي مهّد الطريق لقيام دولة إسرائيل، يعود التاريخ ليطرح أسئلته مجددًا مع الاعتراف الأوروبي المشروط بدولة فلسطين عام 2025. وبين الوعد والاعتراف، تتبدّل الأزمنة وتختلف خرائط القوة، غير أنّ الثابت أن الموقف الغربي ظلّ العامل الأبرز في تحديد حدود الممكن الفلسطيني والإسرائيلي على حدّ سواء؛ تارةً راعيًا لمشروع استيطاني، وتارةً شاهدًا متردِّدًا على مأساة سياسية ممتدة. ورغم تغيّر بنية النظام الدولي، ما زالت إسرائيل تحظى برعاية وريث بلفور، وتسعى جاهدة لاستثمار التحوّلات الإقليمية للانتقال من سياسة الردع إلى سياسة الهيمنة في الف=ضاء المتوسطي. أولاً: مناخان سياسيان مختلفان في عام 1917، كان العالم غارقًا في أتون الحرب العالمية الأولى، والإمبراطورية العثمانية التي تسيطر على فلسطين على وشك الانهيار. في تلك اللحظة، قرّرت بريطانيا، سيدة الشرق حينها، أن تمنح اليهود وعدًا بوطن قومي في فلسطين، طمعًا في كسب دعمهم في الولايات المتحدة وروسيا، وبهدف ترسيخ نفوذها في المشرق العربي. أما عام 2025 حمل الاعتراف الأوروبي المشروط بدولة فلسطين في سياق مغاير تمامًا، يتّسم بـ: تراجع نسبي في الهيمنة الأمريكية الأحادية، رغم استمرار قدرتها على تعطيل قرارات مجلس الأمن وقيادة العمليات العسكرية خارجه. - توسّع اتفاقيات إبراهيم وما رافقها من شراكات اقتصادية وأمنية فتحت المجال أمام هيمنة منشودة ونفوذ إسرائيلي أوسع في الإقليم. - حرب مدمّرة في غزة (2023–2025) خلقت تعاطفًا شعبيًا أوروبيًا واسعًا مع الفلسطينيين، دون أن تُحدث تحوّلًا فعليًا في موازين القوة. - استقطاب دولي حادّ بين دعم تقليدي لإسرائيل وصعود تيار دولي يدعو إلى اعتراف فعلي بفلسطين على حدود 1967. - تصاعد النقد الدولي لسياسات الاحتلال جراء حرب غزة، والتوسع الاستيطاني. - انكماش واضح في قدرات محور المقاومة وتبدّل أولوياته الإقليمية. ثانياً: حركتان ومشروعان الحركة الصهيونية في بدايات القرن العشرين لم تكن فكرة فحسب، بل مشروعًا متكاملًا يمتلك قيادة مركزية وأذرعًا مالية وإعلامية وعسكرية. ومنذ مؤتمر بازل 1897 وضعت هدفها بوضوح: إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وسعت إليه بثلاث أدوات رئيسة: كسب دعم القوى العظمى، وتنظيم الهجرة والاستيطان، وبناء مؤسسات دولة موازية قبل أنْ تولد الدولة نفسها. في المقابل، نشأت الحركة الوطنية الفلسطينية في ظل تحديات مُعقدة، لكنها نجحت في الحفاظ على حضورها السياسي وزخمها الدولي، غير أنّ المشروع الوطني الفلسطيني حتى يومنا هذا يقف أمام واقع بالغ الصعوبة يتّسم بانقسام جغرافي وسياسي وبنيوي بين الضفة وغزة، وغياب استراتيجية جامعة توازن بين أدوات الدبلوماسية وخيارات المقاومة، فضلاً عن مؤسسات سلطة محدودة السيادة وشحيحة الموارد. ورغم ما راكمته فلسطين من اعترافات دولية وانضمامها إلى منظمات الأمم المتحدة، ظلّت هذه الشرعية في معظمها رمزية، عاجزة عن ترجمة الاعتراف السياسي إلى سيادة فعليّة على الأرض في ظل استمرار الاحتلال وتعقيدات المشهد الإقليمي. ثالثاً: من وعد استعماري إلى اعتراف مشروط شكّل وعد بلفور التزامًا استعماريًا صريحًا من قوة تملك سلطة التنفيذ، تحوّل لاحقًا إلى سياسة رسمية عبر الانتداب البريطاني الذي منح شرعيّة عمليّة لتغييرات جيوسياسية مهّدت لقيام إسرائيل. وفي سيناريو متوقع واستكمالًا لاعترافات أوربية سابقة كالسويد بدولة فلسطين، توالت الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية عام 2025، من دول مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، وبصيغة مشروطة تدعو إلى المفاوضات وتربط الاعتراف بوحدة القيادة الفلسطينية وإصلاح مؤسسات السلطة، و في ذات الوقت هي لا تملك آليات مباشرة لفرض الحلول، ومُقيدة بالرفض الأميركي والإسرائيلي لأي اعتراف أحادي؛ ما أقدمت عليه تلك الدول هو مجرد اعتراف أخلاقي، وضغط سياسي ودبلوماسي، لكنه يفتقر إلى أدوات التنفيذ التي امتلكتها بريطانيا قبل قرن من الزمن. رابعاً: عوامل النجاح والإخفاق نجح المشروع الصهيوني لأنه جمع بين رؤية واضحة ودعم تنفيذي قوي واستثمار ذكي للحظة التاريخية عبر: - دعم مباشر من قوة عظمى قادرة على إحداث تغيرات إدارية وقانونية. - تنظيم داخلي مُحكم وموارد مالية وعسكرية وإعلامية متعددة. - استراتيجية ممنهجة للهجرة والاستيطان. - ضعف التمثيل الوطني فلسطيني الموحّد آنذاك. في المقابل ما زال المشروع الفلسطيني يعاني من عقبات هيكلية مزمنة: - انقسام سياسي بنيوي حاد ومُريع. - غياب السيطرة على الأرض والحدود. - ضعف الدعم الدولي الفعلي القادر على ترجمة الاعترافات إلى سيادة. - الاعترافات المشروطة التي تمنح شرعية رمزية من دون أدوات تنفيذ. - قدرة إسرائيل على استخدام أدواتها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية لتعطيل أي ضغوط دولية. لقد وُلد المشروع الصهيوني في أحضان إمبراطورية راعية، فيما يسعى المشروع الفلسطيني اليوم إلى الولادة في فضاء سياسي مفتوح بلا راعٍ ولا إجماع. خامساً: من دروس التاريخ إلى استحقاقات المستقبل ما بين وعد بلفور واعتراف أوروبا ثمة تحوّلٌ جوهري في طبيعة العلاقة الغربية مع الطرفين: من دعم استعماري يمتلك أدوات التنفيذ إلى تعاطف سياسي متردّد يحتاج إلى حلفاء متعددين وترتيبات عملية. فالشرعية الدولية وحدها لا تُنتج دولة، ما لم تُرفق بقدرة تنفيذية على الأرض وخطط قابلة للقياس. التاريخ لا يكتفي بالمقارنات؛ بل يفرض دروسه؛ فالنجاح لا يُقاس بعدد الاعترافات، بل بالقدرة على تحويلها إلى مشروع وطني موحّد ذي مؤسسات وسيادة. إن بناء الدولة لا يتحقق في قاعات المؤتمرات ولا بالشعارات الشعبوية، ولا بالتحالفات الأصولية العابرة، بل عبر إرادة سياسية تمتلك وحدة الهدف ووضوح الرؤية.

ختامًا: الورق لا يُغيّر الواقع الفرق بين وعد بلفور واعتراف أوروبا ليس في النصوص، بل في الإرادات؛ فالأول كُتب على ورق إمبراطوري تملكه قوةٌ قادرة على فرضه، فصار دولة، والثاني صدر عن تعاطف إنساني ودبلوماسي في بيئة تفتقر إلى أدوات التنفيذ. ومع ذلك، يبقى الاعتراف الأوروبي والدولي مكسبًا رمزيًا وأخلاقيًا مهمًا، لكنه لا يُغني عن الحاجة إلى مشروع وطني موحّد يُترجم الرمزية إلى فعل وسيادة. فالوعود لا تصنع وطنًا، والاعتراف لا يبني دولة؛ إنما تصنعهما القدرة على الفعل ووحدة المشروع.

البوابة 24