ذراعٌ محترق يقبض قلب "سامي" الضعيف

الطفل سامي طافش
الطفل سامي طافش

غزة/ البوابة 24- باسل جعرور:

 

بعين مشدوهة وفزع شديد، تسمّر الطفل سامي طافش يتابع مشهد مأساته المؤجلة، يقاوم تدافع أمواج النازحين نحو منفذٍ للخروج من مدرسة يافا؛ التي كانت قد تعرضت للتو لقصفٍ إسرائيلي عنيف، خلَّف زلزالاً هز أركان حي الدرج شرقي مدينة غزة، مُدمِراً نصف مبنى المدرسة المقابل للصف الذي نزحت بداخله أسرة سامي قبل وقتٍ قريب، أما الجزء الآخر من المبنى حيث تأوي الأسرة، فقد بقي شاهداً صامتاً على مجزرة صاخبة.

وبينما كان سامي يركض بلا وجهة تحت تأثير الذعر والصدمة من وقع القصف وأهواله، وقع بصره على ذراع متفحمة تطل من تحت الأنقاض، وقبل أن يُترجم عقله الصورة الأولى، دفعتها أخرى أشد فظاعةً، بعد أن حاول ضابط دفاع مدني انتشال الجثة، فانفصلت اليد المحترقة نتيجة تهالك الأنسجة عن باقي الجسد، في مشهدٍ مفزعٍ تجمَّد في رأس الطفل ذو 16 عاماً، ليس كمجرد صورة عابرة في ذاكرة الحرب، بل كإحساسٍ حي لا يغادر جسده ووعيه.

تقول والدة سامي للبوابة 24: "استيقظنا مفزوعين على قصف المدرسة حوالي الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل، يحاصرنا الصراخ وألسنة اللهب التي حولت أجساد النازحين إلى شموع، تُحرق حتى يذوب شحمها فتنطفئ.. ونحن عاجزون عن فعل شيء سوى البحث عن مخرج للهروب، ووسط كل ذلك كان سامي يعيش صدمته بفظاعة ما رأى".

وتضيف: "بحمد الله لم يتعرض أي من أسرتنا لإصابة جسدية، لكن الأهوال التي عشناها تلك اللحظة حفرت ندوباً نفسية يصعب شفاؤها، إلا أن أكثرنا تضرراً كان طفلي سامي، بعد أن شاهد ذراع إحدى الجثث المحترقة وهي تُنزع عن باقي الجسد لتعلق في يد رجل الدفاع المدني، ومنذ تلك اللحظة، علقت هذه الصورة في ذهنه حتى بات أسيراً لها".

23f661e1-3f94-40d7-8b50-e50b8199c46d.jfif
 

اضطراب ما بعد الصدمة

خمولٌ وعزلة اجتاحت كيان سامي الذي خسر حيويته الاجتماعية كأول ظهور لأعراض اضطراب ما بعد الصدمة، والتي بدأت تتضح بعد أربعة أيام من الحدث، ليدشن فصلاً مستجداً في حياته، عنوانه قلة الحركة والكلام، والعزوف عن تناول الطعام، مصحوباً بأرق حاد وصعوبة في النوم.

انتكاسة واضحة، وصعوبة في الوصول إلى المراكز الطبية والعيادات التي دُمرت معظمها خلال الحرب، دفعت والدة سامي للجوء إلى الطب الشعبي، أو ما يعرف محلياً بجلسات "قطع الخوفة" في محاولة متواضعة للتعامل مع حالة طفلها، ورغم المواظبة على جلسات الطب الشعبي حتى أنهى ثلاثاً منها، والالتزام بإرشادات المُعالج، إلا أن كل ذلك كان دون جدوى.

ومع نوبة ارتفاع مفاجئ في الحرارة، سارعت الأم لحمل طفلها على عربة يجرها حيوان، قامت باستبدالها مرتين في مشوار البحث عن نقطة طبية، قبل أن تصل إلى عيادة مسقط في حي الزيتون، على مسافة ليست بالقريبة، بعد أن أخرج استهداف الاحتلال المستمر للمنظومة الصحية في قطاع غزة معظم المستشفيات عن الخدمة، وأمام النقص الحاد في الأدوية وانعدام الإمكانيات، اقتصر التدخل الطبي على منح سامي خافض للحرارة، وبعض الفيتامينات والمقويات الغذائية، دون أي تحسن يذكر.

مضاعفات متلاحقة عانى منها الطفل سامي مع بزوغ كل يوم جديد، صاحبها تغير مستمر في مكان إقامة الأسرة بعد قصف المدرسة، مما حال دون قدرتها على الوصول إلى أي مركز للدعم النفسي، أو حتى عرضه على طبيب نفسي مختص كخطوة أولى للعلاج، سيما وأن التدهور في حالته الصحية، بحسب تقدير الأطباء، نتيجة تراكب معقد من الإعياء النفسي والجسدي؛ بفعل الصدمة التي تعرض لها.

وأمام صراع النزوح المتكرر وعدم القدرة على الالتزام بالمتابعة الطبية المطلوبة لحالة سامي، وغياب الدعم النفسي، ظهرت دفعة جديدة من الأعراض المتقدمة أنذرت بدخوله مرحلة الخطر على الحياة بازدياد، ابرزها ارتفاع في شدة ضربات القلب، وتغير في لون البول وتقيؤ مستمر، مع ارتفاع مزمن في الحرارة، ليودَع على إثرها قسم الباطنة في مجمع ناصر الطبي في خانيونس، بعد أن وصلت أسرته النازحة قسراً إلى الجنوب.

أمراض مختزنة وقلبٌ ضعيف

أيام طويلة قضاها سامي في صراع الألم بين أجهزة الفحص والتصوير الطبي في مجمع ناصر، تكشفت فيها عديد المشكلات الصحية المختزنة في قلبه الضعيف، من ضمنها انسداد في أربعة صمامات وضعف عام في عضلة القلب، وخلل في وظائف الكبد والكلى. كل ذلك حرمه من القدرة على بذل أي مجهود بدني مهما بدا بسيطاً، مع صعوبة في الحركة والكلام جعلته طريح الفراش على سرير المستشفى.

ويشير الطبيب أحمد الروبي، مدير قسم الباطنة في مجمع ناصر الطبي، إلى تشخيص الحالة الصحية للطفل سامي بالقول: "لا تملك العوامل النفسية قدرة مباشرة على التغيير في بنية أو تركيبة أعضاء جسم الإنسان، لكنها يمكن أن تؤثر على مشكلات تتعلق بعيوب خُلقية وتضاعف من آثارها على صحة الجسد أو تحد من قدرة العضو على أداء وظيفته بالكفاءة المطلوبة، وهذا بالغالب ما حدث مع الطفل سامي".

ويتابع الروبي: "لا نستطيع الجزم أو إعطاء تشخيص طبي نهائي لهذه الحالة؛ نتيجة الافتقار إلى الأجهزة اللازمة لإجراء الفحوصات الدقيقة، علاوة على أن هذه الحالة المعقدة تتداخل فيها عدة تخصصات طبية، مما يتطلب تكاملاً وتنسيقاً بين الأطباء من مختلف هذه التخصصات للوقوف على الأسباب النفسية والعضوية المسببة لهذه الحالة، ومدى قدرة كل عامل من العوامل على التأثير في صحته والانعكاسات المباشرة الناجمة عنه وغير المباشرة".

ويكمل: "هذا الأمر يتطلب رحلة طويلة من العرض الطبي على الأقسام والتخصصات المختلفة، والخضوع لجلسات ملاحظة طويلة وممتدة، كي نصل إلى تشخيص دقيق لهذه الحالة، وهو مهمة شاقة لا تستطيع المنظومة الطبية بوضعها الحالي القيام بها، نتيجة النقص الحاد في الكوادر الطبية مقارنةً بحجم الضغط الكبير وتكدس المرضى، إلا أننا نبذل كل ما بوسعنا في رعاية جميع المرضى، وسيما الحالات الخاصة على غرار سامي".

97acec24-a0e4-4d5b-bd88-87af8a50ef31.jfif
 

سجل طبي نظيف

بين حيرة الأطباء وعجز المنظومة الصحية، تؤكد والدة الطفل سامي طافش أن السجل الطبي لنجلها سامي لم يشهد اكتشاف أي من هذه الأمراض قبل الصدمة التي تعرض لها، ولم يسبق أن ظهرت عليه أي من هذه الأعراض أو الإصابة بحالة إعياء تطلبت تدخلاً طبياً، بل كان على الدوام يتمتع بصحة جيدة، يلعب ويمرح ويشارك أسرته في أداء المهام التي تتطلب مجهوداً بدنياً عالياً.

وتحكي طافش: "لم يسبق لي الذهاب به إلى لعيادة أو مستشفى سوى لإعطاءه جرعات التطعيم المعروفة بعد الولادة، وكانت يتمتع بجسد يافع وصحة جيدة على الدوام، فعندما قمنا ببناء المنزل كان يساعد العمال في نقل المستلزمات والحجارة رغم سنه الصغير، وخلال الحرب، كان ينقل الماء إلى الطوابق العلوية دون أن يشكو من أي إعياء مضاعف، أو أن تظهر عليه أي أعراض لبذل مجهود لا يقوى عليه جسد يعاني من اضطرابات صحية أو قلب ضعيف".

وتكمل: "تشير تقديرات الأطباء إلى أن المشاكل الصحية لديه ليست وليدة اللحظة، لكنها لم تُكتشف لأنه لم يكن مضطراً لبذل مجهود عضلي شاق على مدى طويل أو مستدام، أو التعرض لحدث ذو تأثير قوي على عضلة القلب، بينما جاءت حادثة القصف، والصورة المرعبة التي سيطرت على إدراكه منذ تلك اللحظة، فتحت ثغرة لانفجار هذا البركان المختزن من المشكلات الصحية المختلفة، وضاعف من مدى قوتها وحدة تأثيرها".

بعد سبعة شهور من الصراع مع الألم النفسي والجسدي، يرقد سامي على سريره في مجمع ناصر الطبي، أمام حسرة والدته وهي ترقب جسده مكبلاً بأسلاك أجهزة الفحص وخراطيم الأوكسجين والمحاليل الطبية، تنتظر لحظة يتجلى فيها الأمل بإجلاءه للعلاج خارج قطاع غزة، بينما يعيش سامي بوعي أسير لفيلم رعب سرمدي، يكرر مشهداً واحداً دون انقطاع، ليد محترقة تبرز من أسفل الركام.. تنفصل أنسجتها المتهتكة عن باقي الجسد؛ لتقبض قلبه الضعيف.

البوابة 24