غزة/ البوابة 24-رغدة عواد
ملاحظة: الأسماء الحقيقية موجودة لدى ادارة البوابة 24 لحفظ الخصوصية
حين يُستشهد الأب في غزة، لا تنتهي المأساة، بل تبدأ رحلة جديدة من الألم والتحديات. تتحول البيوت والخيام إلى مساحات مشبعة بالفقد، حيث يتشبث الأطفال بصور آبائهم، وتكافح الأمهات بصمت وسط الحنين والمسؤولية.
لكن وجعًا آخر يطفو على السطح: صراع الوصاية على الأطفال، في ظل نظام قانوني واجتماعي هشّ يزيد من معاناة الأمهات، ويترك الأطفال في مواجهة أسئلة مصيرية حول الأمان والمستقبل.
غالبًا ما تنقسم العائلات حول من يملك حق رعاية الأيتام، ليس بدافع الحب، بل بسبب الإعانات المالية التي تقدمها المؤسسات الإغاثية وجمعيات الكفالة، ما يحوّل الوصاية إلى ساحة نزاع بدلًا من حماية.
معركة من أجل البقاء
في الأرض المحروقة شرق مدينة دير البلح، يمتد مخيم الأيتام على مساحة نحو أربعة دونمات، خيام صغيرة تتمايل مع الريح التي تحمل رائحة البارود، وتحوم فوقها طائرات الاستطلاع التي لا تغادر سماء غزة، فيما تتصاعد أعمدة الدخان من بؤر النار التي يشعلها النازحون للطهي والخبز.
تعيش (م. س.) 30 عامًا مع أطفالها الخمسة بعد استشهاد زوجها في سبتمبر 2024، منذ ذلك اليوم، تحوّل عالم (م.) إلى معركة من أجل البقاء، وأخرى من أجل الاحتفاظ بأطفالها.
تقول بصوت مكسور، وهي تحاول تهدئة أصغر أيتامها الذي وُلد بعد استشهاد أبيه بأشهر قليلة: "كل شيء مات مع استشهاده، حتى الأمان." ( م.) يتيمة الأب منذ الصغر، تركتها والدتها وتزوجت بآخر، فيما انتقل إخوتها للعيش في مصر.
تضيف: "حاولت عائلة زوجي أخذ أطفالي بعد فترة قصيرة من استشهاده بحجة رعايتهم، رغم أن الجميع يعرف أن الأمر لا يتعلق بالرعاية بقدر ما هو طمع في التحكم بمستحقاتهم المالية والاستفادة من الكفالات المخصصة للأيتام."
وتتابع: "تم تهديدي عشرات المرات بحرماني من رؤية أطفالي إذا واصلت المطالبة بالوصاية عليهم."
توضح ( م. ) أن والد زوجها متوفى، ووالدته رفضت الذهاب إلى المحكمة لاستكمال أوراق الحضانة والوصاية التي تحتاجها لتحصل على معاش أطفالها من راتب أبيهم الذي كان موظفًا في الحكومة الفلسطينية.
وتقول: "منذ ديسمبر 2024، لم أتسلّم أي معاش بسبب تعنتهم في الإجراءات، رغم أنهم يدركون أنني أعيش مع أطفالي في خيمة متواضعة تخلو من أدنى مقومات الحياة، ونعتمد على المساعدات الإنسانية الطارئة التي تصل إلى مخيم النزوح."
ابتزاز وتنازل
ورغم أن القانون يقرّ بحضانتها لأطفالها، إلا أنها لا تستطيع الحصول على مستحقاتهم أو إعالتهم بطريقة قانونية سليمة.
تقول ( م.) :"كغيري من النساء، نتعرض للابتزاز الدائم. طلبوا ( م.) التنازل عن الكفالات المخصصة لأطفالي مقابل أن يسمحوا لي بالبقاء معهم."
وتتساءل بأسى وهي تنظر نحو أطفالها الذين يلعبون حفاة الأقدام قرب خيمتها: "كيف يمكن لامرأة أن تعيل أطفالها دون مصدر رزق؟ وهل يُعقل أن يحدد آخرون ما يحتاجه طفلي ومتى يحتاجه؟"
حُرمت من أطفالها لرفضها الزواج بأخ زوجها
في خيمة أخرى، تعيش ( أ. د.) 24 عامًا، نازحة من حي الصبرة جنوب مدينة غزة، أم لطفلين يبلغان أربع سنوات وعامين، فقدت زوجها في نوفمبر 2023.
تقول بصوت خافت ودموعها تنهمر: "بعد استشهاد زوجي بوقت قصير جدًا، استشهد أبي، وقت دفن أبي شعرت بأن سندي وكل ما تبقى لي دُفن معه، أخذ أهل زوجي الطفلين بطريقة بشعة لا يمكنني نسيانها."
وتضيف: "تم تهديدي عشرات المرات بعدم رؤية أطفالي مجددًا إن لم أتزوج شقيق زوجي (سلفي)، رفضت ذلك، وسيطر عليّ الحزن الذي تحوّل إلى المرض والعزلة بعد انتزاع طفليّ من حضني."
تتابع: "كانت ليالٍ قاسية إلى جانب الإبادة بكل أشكالها، كنت أسمع صراخ رضيعي ذي الستة أشهر في ليل الخيام القاتل، ولا أستطيع فعل شيء سوى البكاء والدعاء، بعد أيام، أعادوه لي فقط لأنهم لم يستطيعوا إسكات جوعه وسط غياب الحليب وتدهور الأوضاع الإنسانية."
ورغم استعادتها لصغيرها، لم تتمكن من استعادة حقها القانوني في الوصاية، إذ رفض والد زوجها التنازل عنها، وهو ما يحرمها من الحصول على الإعانات المالية المخصصة للأيتام، وحسب قولها تعتاش الآن هي وطفليها على بعض المساعدات التي تكاد تكفي سد رمقهم.
الفجوة بين القانون والحقوق
ينص قانون الأحوال الشخصية الفلسطيني رقم (61) لسنة 1976م على أن الحضانة مبدئيًا للأم، لكنها لا تمنحها تلقائيًا الوصاية أو الولاية القانونية على الطفل بعد وفاة الأب.
وفي التطبيق القضائي، تنتقل الوصاية غالبًا إلى أقارب الأب الذكور، بدءًا من الجد ثم الأعمام، ما يقلّص قدرة الأم على التصرف في ممتلكات الطفل أو اتخاذ القرارات القانونية نيابة عنه.
وتشير منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى أن هذه الفجوة بين النص القانوني وحقوق الأم العملية تجعل النساء عرضة للمساومة القانونية والاجتماعية، خصوصًا في حالات الحرب حيث تتعطل المحاكم وتتعقد الإجراءات.
شهادات قانونية ونفسية
تقول المحامية الشرعية آية المغربي، التي تعمل في أحد برامج الدعم القانوني للنساء: "أوضاع الإبادة الطارئة تتطلب من مؤسسات حماية الأيتام العمل بمرونة أكبر مع النساء الحاضنات، بما يضمن حماية حقوق الأطفال وإتاحة الرعاية المستمرة لهم بعيدًا عن التعقيدات القانونية التقليدية."
وتؤكد أن التدخل الطارئ ضرورة للحفاظ على مصلحة الأطفال الذين يعيشون ظروفًا استثنائية لا تحتمل الانتظار لتطبيق القانون التقليدي.
فيما توضح الدكتورة رائدة أبو عبيد، أستاذة علم النفس والاجتماع في جامعة الأقصى، أن فقد الزوج يمثل صدمة نفسية عميقة للأم والأطفال على حد سواء.
وتقول: "تعطّل المحاكم الشرعية خلال الحرب أدى إلى تعقيد الإجراءات القانونية، وكثير من النساء يُطلب منهن التنازل عن حقوقهن القانونية مقابل السماح لهن بالبقاء مع أطفالهن، ما يزيد العبء النفسي ويهدد استقرار الأطفال."
وتضيف:"حماية حقوق الأطفال تبدأ بضمان الاستقرار النفسي إلى جانب متابعة الإجراءات القانونية لاستصدار (حجة حضانة) و(وصاية) رسمية."
وتشير إلى أن المؤسسات والجمعيات الخيرية المحلية تقدّم دعمًا ماديًا ونفسيًا للأمهات والأطفال، لكن عدم حصول النساء على الوصاية يجعل حياتهن مليئة بالتحديات.
ظاهرة متنامية
تشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن أكثر من 39 ألف طفل فقدوا أحد أو كلا والديهم منذ 7 أكتوبر 2023، بينما أعلنت اليونيسف في أكتوبر 2025 أن العدد ارتفع إلى أكثر من 56 ألف طفل.
ويُبرز هذا الواقع أن حياة الأمهات الأرامل باتت اختبارًا يوميًا للصمود وتحديًا متواصلًا لضمان حقوق أطفالهن وسط انهيار البنية القانونية والإنسانية.
استثناءات مؤقتة وحلول مقترحة
توضح المحامية آية المغربي أن النزاعات حول الوصاية والولاية على الأطفال الأيتام تصاعدت بعد الحرب، وأصبحت ظاهرة شائعة تضغط على النساء اللواتي يسعين لحماية حقوق أولادهن.
وتقول: "إذا اختارت الأم البقاء مع أولادها لرعايتهم، يتعين عليها استخراج حجة (حضانة) و(وصاية)، لكن القانون يشترط حضور الجد أو الأعمام في حال غياب الجد، وهو ما يمنح الأقارب قدرة على المساومة."
وتضيف: "لم تصرف الحكومة الفلسطينية مستحقات الأرامل بسبب تعطل المحاكم الشرعية في غزة، ما زاد من معاناة النساء اللواتي يواجهن صعوبات في استكمال الإجراءات القانونية."
وتشير المغربي إلى تزايد أعداد النساء اللاتي يلجأن إلى برامج الدعم القانوني لتلقي الاستشارة والمرافعة القانونية، مؤكدة أن هذه البرامج أصبحت الملاذ الرئيسي للنساء اللواتي يبحثن عن حلول تحمي حقوقهن وحقوق أطفالهن في ظروف استثنائية، حيث تتشابك القوانين مع الواقع الإنساني المعقد الذي تفرضه الحرب.
وترى أن أوضاع الإبادة الطارئة مثل الحرب والنزوح تتطلب من مؤسسات حماية الأيتام وفرق الإغاثة العمل بمرونة أكبر، وتقول: "يجب أن تُمنح الحاضنات استثناءات مؤقتة، وأن تُعالج قضايا الحضانة والوصاية بطريقة تراعي الحاجة الفعلية للأطفال إلى رعاية مستمرة بعيدًا عن التعقيدات القانونية التقليدية."
وتختم المغربي: " عودة المحاكم للعمل تدريجيًا بعد وقف إطلاق النار تتيح الآن النظر في هذه القضايا، لكنها تكشف أيضًا حاجة النظام القانوني إلى مراجعة عاجلة لضمان حماية النساء والأطفال بشكل أكثر عدالة وفاعلية."
قيود كبيرة وتهديد لجيل كامل
تشير أحدث تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إلى تفاقم الكارثة الإنسانية التي يعيشها أطفال قطاع غزة، حيث فقد أكثر من 56 ألف طفل أحد أو كلا الوالدين منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية.
ويعاني جميع الأطفال تقريبًا من الصدمة النفسية والنزوح المتكرر، فيما يعيش آلاف منهم في مراكز إيواء مكتظة أو خيام مؤقتة تفتقر إلى أبسط مقومات الأمان والرعاية.
وذكرت المنظمة أن ما لا يقل عن 17 ألف طفل أصبحوا أيتامًا تمامًا أو منفصلين عن ذويهم، مؤكدة أن جيل غزة الجديد يواجه خطر "الضياع" في ظل غياب التعليم والرعاية النفسية.
وتقول الباحثة مريهان أبو لبن، المختصة بقضايا النساء في غزة: "القانون يمنح الأم حق الحضانة مبدئيًا، لكنه لا يمنحها الوصاية أو الولاية الكاملة على طفلها بعد وفاة الأب، ما يضعها أمام قيود كبيرة في اتخاذ القرارات القانونية والمالية والتعليمية."
وتضيف: "هذه المشكلة ليست جديدة، بل امتداد طبيعي لضعف القوانين، خاصة قانون الأحوال الشخصية الفلسطيني الذي يمنح الحقوق العملية غالبًا للذكور من الأقارب على حساب الأم الحاضنة."
وتؤكد أبو لبن أن الوضع الطارئ يتطلب مرونة قانونية وإنسانية، فالقوانين التقليدية لم تُصمَّم للتعامل مع حالات الإبادة.
وترى أنه يجب منح الحاضنات صلاحيات مؤقتة لاتخاذ القرارات الأساسية المتعلقة برعاية الأطفال، بما يضمن استمرار تعليمهم ورعايتهم الصحية والنفسية بعيدًا عن التأخير والمماطلة.
يبقى غياب الآباء الشهداء جرحًا مفتوحًا في حياة أسرهم، لكنه لا يوقف سعي الأمهات لتأمين مستقبل أطفالهن وسط واقع قاسٍ تفرضه الحرب. وبين أنقاض البيوت وذاكرة الفقد، تواصل عائلات غزة كتابة فصول جديدة من الصمود، في مواجهة قوانين تسرق وصايتهن، وواقع لا يرحم.

