بقلم: المحامي علي أبو حبلة –
تجاوزت الحرب على غزة حدود العدوان العسكري التقليدي لتصبح مشروعاً استخباراتياً واستراتيجياً يهدف إلى تفكيك المجتمع المدني الفلسطيني من الداخل. فبعد فشل الاحتلال في تحقيق الحسم العسكري المباشر، لجأت إسرائيل إلى ما يُعرف بـ«الفوضى المُدارة» و«الحرب الرمادية» و«الهندسة الاجتماعية»، مستهدفة النسيج الأهلي، ومواءمة أدواتها مع أجندة السيطرة غير المباشرة على القطاع. الاستراتيجية الإسرائيلية: من الاحتلال المباشر إلى التفكيك الاجتماعي أدرك الاحتلال أن تفكيك المجتمع أكثر فاعلية من تدمير المباني والمرافق. فاستهدف البلديات، والمؤسسات العامة، والنقابات، وعمّق الانقسامات العائلية والقبلية، بينما استغل التجويع والحصار لإضعاف الروح الجماعية. وقد اعتمدت أجهزة الاحتلال سياسة إدارة عدم الاستقرار، أي إبقاء غزة في حالة فوضى محكومة تمنع الانهيار الكامل لكنها تحول دون استقرار طويل الأمد، وهو ما مكّنها من تحويل الاقتصاد والمساعدات الإنسانية إلى أدوات للضغط وخلق شبكة ولاءات مرتبطة بالاحتلال. على المستوى الميداني، ظهرت ميليشيات وعصابات محلية مرتبطة بالاحتلال، مثل عصابة ياسر أبو شباب في رفح وميليشيا حسام الأسطل، التي أُعلنت «القوة الضاربة ضد الإرهاب» تحت إشراف إسرائيل. وقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً: «نفعّل عشائر في غزة ضد حماس… ما الخطأ في ذلك؟»، في اعتراف صريح باستخدام الاحتلال لوكلاء محليين لتعزيز الفوضى وإضعاف المقاومة. صمود المجتمع الغزي: مواجهة التفكيك بالوعي والتنظيم الأهلي رغم تعمّد الاحتلال تفكيك النسيج الاجتماعي، أظهر المجتمع الغزي قدرة استثنائية على المناعة المجتمعية وإعادة التنظيم. فقد أعادت المقاومة خلال فترات الهدنة، مثل يناير 2025، ترتيب صفوفها وتفكيك العصابات والعملاء، بينما برزت لجان ومبادرات أهلية لتنظيم المساعدات ودعم الأسر المتضررة، ما أعاد بعض الاستقرار إلى الحياة اليومية. هذا الصمود أثبت أن الوعي الجمعي للمجتمع الفلسطيني أقوى من الفوضى المصطنعة. البعد القانوني الدولي: جريمة ممنهجة ضد المدنيين تشكل سياسة الاحتلال في غزة انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني. فالمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تحظر العقوبات الجماعية، فيما تُلزم المادة 55 القوة المحتلة بتأمين الإمدادات الأساسية للسكان المدنيين. كما يُعد استخدام الجوع كسلاح ضد المدنيين جريمة حرب بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2417 (2018). وبذلك، فإن الاحتلال لا يدير أزمة إنسانية فحسب، بل يمارس إستراتيجية ممنهجة لتفكيك المجتمع المدني عبر وسائل اقتصادية واجتماعية وأمنية. تحوّل العقيدة الأمنية الإسرائيلية واستراتيجية الاحتلال غير المرئي تكشف هذه السياسات عن تحول في العقيدة الأمنية الإسرائيلية من الاحتلال المباشر إلى احتلال غير مرئي يقوم على إدارة الفوضى واستغلال وكلاء محليين، مع إبقاء غزة في حالة ضعف دائم لتبرير الحصار والعدوان أمام الرأي العام الدولي. هذا التوجه يوضح أن الحرب ضد غزة لم تعد مقتصرة على الأهداف العسكرية، بل امتدت لتشمل استهداف المجتمع المدني والنسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. النتائج الاستراتيجية: وعي الغزيين أقوى من الفوضى المُدارة رغم حجم الفوضى، فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه. فقد أظهرت التجربة أن كل محاولة لتفكيك المجتمع واجهتها مبادرات الأهالي ولجان المقاومة المدنية، التي أعادت بناء الروابط الاجتماعية وأمنت استمرار دعم الأسر المتضررة. ويشير ذلك إلى أن الصراع في غزة هو صراع مزدوج بين مشروع الاحتلال لتفكيك المجتمع ومشروع وطني فلسطيني للمقاومة والصمود، حيث ينتصر الوعي والإرادة على الأساليب النفسية والاجتماعية للتدمير. خلاصة التحليل غزة اليوم تقدم نموذجاً للقدرة على مواجهة الفوضى المُدارة باستخدام الوعي الجمعي والتنظيم الأهلي والمقاومة المدنية، مؤكدة أن القوة المادية لا تكفي لتحقيق الانتصار الاستراتيجي ضد مجتمع يتمتع بإرادة صلبة ومقاومة شعبية. ويبين هذا التحليل أن الاحتلال الإسرائيلي مهما استعمل من أساليب الحرب النفسية والاجتماعية، سيظل عاجزاً عن كسر إرادة شعب اختار من الصمود مشروع حياة ومن الفقر مدرسة مقاومة.
