القتل بالسِمنة.. كيف يستمر الاحتلال في تجويع غزة بالشوكولاتة والمعلّبات؟

دجاج معلب
دجاج معلب

غزة/ البوابة 24

في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تجولت عزة شاهين بين أروقة أحد السوبرماركتات، تتأمل الرفوف المكدسة بأنواع الشوكولاتة والمخللات والمشروبات الغازية. كل شيء يبدو لامعًا ومغلفًا بعناية، كأن الحرب لم تمر من هنا. لكنها حين بحثت عن البيض أو الحليب أو الخضروات، وجدت الرفوف فارغة أو الأسعار فلكية لا تطالها يدها.

توقفت عزة أمام عبوة صغيرة من الجبن، قرأت السعر ( 13 دولار أمريكي ) ثم أعادتها إلى مكانها بصمت. "هل يُعقل أن يكون هذا هو التعافي؟"، همست لنفسها. "هل يُراد لنا أن نبدو بخير أمام الكاميرات، بينما أطفالنا لا يجدون البروتين؟". تسرح عزة في المفارقة: رفوف ممتلئة، وأجساد منهكة؛ سوق نابض بالسلع، وحياة تفتقر لأبسط مقومات التغذية.

وفي سوق الزاوية الشعبي وسط البلدة القديمة في مدينة غزة، كان الأب يسير بخطى متثاقلة، ممسكًا بيد طفله الصغير الذي تجول عيناه بين البضائع المعروضة على الأرصفة وفي واجهات المحال. كان السوق يعج بالحركة، لكن الوجوه تحمل تعبًا لا تخطئه العين، كأنها تجرّ خلفها شهورًا من الحصار والجوع. توقف الطفل فجأة أمام محل يبيع الدجاج المجمد، شدّ يد والده وقال بصوت خافت: "منذ زمن لم نأكل منه".

نظر الأب إلى السعر المعلّق على العبوة، ثم إلى عيون طفله، ولم ينبس بكلمة. اكتفى بابتسامة باهتة، وسحب يده بلطف ليكمل طريقه. في تلك اللحظة، لم يكن المشهد مجرد رغبة طفل في وجبة غائبة، بل تلخيصًا لواقع آلاف العائلات التي تمرّ يوميًا أمام الطعام دون أن تقدر على شرائه. في غزة، باتت الرفوف مليئة... لكن الموائد فارغة.

 مفارقة الشبع الكاذب

 في مدينة غزة، يضحك محمود بأسى وهو يصف حالته لصديقه: "أشعر بالتعب عند المشي، وإن صعدت سلماً كأن جبلاً يجثم على صدري". رغم زيادة وزنه الملحوظ، يؤكد أنه لا يشعر بتحسن، إذ يعتمد على المعلبات وطعام التكيات. "ما يدخل من بضائع مجرد كماليات: شوكولاتة، مخللات، سجائر"، يقول محمود.

 وفي ظل الحصار وتقييد دخول المواد الغذائية الأساسية، ظهرت في أسواق غزة مؤخرًا معلبات دجاج مستوردة بطعم نفّاذ ومقرف، تُباع بسعر يصل إلى 75 شيكل للعلبة الواحدة ( 20 دولار امريكي)، وهو رقم يفوق قدرة معظم العائلات على الشراء. ويشتكي السكان من أن هذه المنتجات لا تصلح للاستهلاك الآدمي، فيما يتهم كثيرون بعض التجار بتحويل القطاع إلى حقل تجارب لسلع فاسدة ومنخفضة الجودة، تُسوق بأسعار خيالية في ظل غياب الرقابة وغياب البدائل الصحية.

 هذه الفوضى لا تأتي من فراغ، فالأزمة أعمق من مجرد استغلال تجاري. فهي نتيجة مباشرة لسياسات الحصار التي تتحكم في ما يدخل وما يُمنع من دخول القطاع. رغم إعلان وقف إطلاق النار، لا تزال إسرائيل تمنع دخول أكثر من 350 صنفًا من المواد الغذائية الأساسية، وفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة. تشمل هذه الأصناف اللحوم، البيض، الألبان، الخضروات، والمكملات الغذائية، بينما تسمح بدخول سلع ذات قيمة غذائية متدنية، تُباع بأسعار تفوق قيمتها بـ15 ضعفًا.

 سياسة "إبقاء الرأس فوق الماء"

 يقول محمد بربخ، القائم بأعمال الإدارة العامة للدراسات في وزارة الاقتصاد، إن الاحتلال يتبع سياسة مدروسة تقوم على ضبط كميات الغذاء وأنواعه وأسعاره، بهدف إبقاء السكان على حافة الجوع دون الانهيار الكامل. ويؤكد أن الأسواق في غزة أصبحت شديدة الهشاشة بعد تدمير المخازن، وأن أي تعطّل بسيط في إدخال البضائع كفيل بإرباك الحياة اليومية بشكل كامل.

 المجاعة مستمرة... والبروتين مفقود

 يقول خبير التغذية محمد علوان إن المجاعة انتقلت من مرحلة نقص السعرات إلى مرحلة نقص البروتين، وهي الأخطر. "غياب البروتين يؤدي إلى انتفاخ الوجه والبطن، تدمير المناعة، ضعف الإدراك العقلي، وتأخر النمو"، يوضح علوان، محذرًا من آثار كارثية على الأطفال والحوامل والجرحى.

ويشير إلى أن النظام الغذائي بات مختلًا، يعتمد على النشويات فقط، بينما تندر الدهون الطبيعية الضرورية لتغذية الخلايا العصبية. "نرى اليوم مواليد بأوزان لا تتجاوز 1.5 كيلوغرام، بعد أن كانت الأوزان الطبيعية بين 3 و3.5 كيلوغرامات قبل الحرب"، يقول علوان، مضيفًا أن سوء التغذية بات شريكًا دائمًا للأمراض المزمنة، وأن حالات الوفاة في العناية المركزة لم تعد بسبب الإصابات فقط، بل لأن الجسد بات عاجزًا عن المقاومة.

غذاء مُسيّس... وحياة تُدار من المعبر

يرى مختصون في الاقتصاد أن إسرائيل تتعامل مع الغذاء كوسيلة ضغط ناعمة، تُوظَّف للسيطرة على تفاصيل الحياة في قطاع غزة. فبدل أن يُعامل كحق إنساني، أصبح الغذاء أداة لإدارة الواقع اليومي، تُحدد كمياته وأنواعه عبر المعابر، وتخضع أسعاره لقوائم ومنظومات توريد خفية تتحكم في السوق المحلي.

 ورغم أن وقف إطلاق النار كان يفترض أن يفتح الباب أمام تدفق المساعدات، إلا أن ما يدخل لا يكفي لتلبية الحد الأدنى من الاحتياجات. وبينما تُعرض الشوكولاتة في رفوف المتاجر، يختفي البيض واللحوم من موائد الأسر، وتغيب البروتينات عن أجساد الأطفال، في مشهد يعكس مفارقة قاسية: غزة تتعافى شكليًا... لكنها لا تزال جائعة.

 

البوابة 24